قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } ، أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ، ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ، ولا سماء . وقيل : ستة أيام كأيام الآخرة ، وكل يوم كألف سنة ، وقيل : كأيام الدنيا ، قال سعيد بن جبير : كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام ، تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور ، وقد جاء في الحديث : ( التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان ) .
قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } ، قال الكلبي ومقاتل : استقر ، وقال أبو عبيدة : صعد ، وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء ، فأما أهل السنة فيقولون : الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف ، يجب على الرجل الإيمان به ، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل ، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : { الرحمن على العرش استوى } [ طه :5 ] ، كيف استوى ؟ فأطرق رأسه ملياً ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أظنك إلا ضالاً ، ثم أمر به فأخرج . وروي عن سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات ، أمروها كما جاءت بلا كيف ، والعرش في اللغة : هو السرير ، وقيل : هو ما علا فأظل ، ومنه عرش الكروم ، وقيل : العرش الملك .
قوله تعالى : { يغشي الليل النهار } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، ويعقوب : ( يغشي ) بالتشديد هاهنا ، وفي سورة الرعد ، والباقون بالتخفيف ، أي : يأتي الليل على النهار فيغطيه ، وفيه حذف أي : ويغشي النهار الليل ، ولم يذكره لدلالة الكلام عليه ، وذكر في آية أخرى فقال : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } [ الزمر :5 ] .
قوله تعالى : { يطلبه حثيثاً } ، أي : سريعاً ، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه ، فكأنه يطلبه .
قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } ، قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر ، والباقون بالنصب ، وكذلك في سورة النحل عطفاً على قوله : { خلق السموات والأرض } ، أي : خلق هذه الأشياء مسخرات ، أي : مذللات .
قوله تعالى : { بأمره ألا له الخلق والأمر } ، له الخلق لأنه خلقهم ، وله الأمر ، يأمر في خلقه بما يشاء ، قال سفيان بن عيينة : فرق الله بين الخلق والأمر ، فمن جمع بينهما فقد كفر .
قوله تعالى : { تبارك الله } ، أي : تعالى الله وتعظم . وقيل : ارتفع . والمبارك المرتفع . وقيل : تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة ، أي : البركة تكتسب وتنال بذكره ، وعن ابن عباس قال : جاء بكل بركة ، وقال الحسن : تجيء البركة من عنده وقيل : تبارك : تقدس . والقدس : الطهارة ، وقيل : { تبارك الله } أي : باسمه يتبرك في كل شيء . وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال . وأصل البركة الثبوت . ويقال : تبارك لله ، ولا يقال : متبارك ولا مبارك ، لأنه لم يرد به التوقيف .
{ 54 } { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وما فيهما على عظمهما وسعتهما ، وإحكامهما ، وإتقانهما ، وبديع خلقهما .
{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع { اسْتَوَى } تبارك وتعالى { عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الملك ، ودبر الممالك ، وأجرى عليهم أحكامه الكونية ، وأحكامه الدينية ، ولهذا قال : { يُغْشِي اللَّيْلَ } المظلم { النَّهَارَ } المضيء ، فيظلم ما على وجه الأرض ، ويسكن الآدميون ، وتأوى المخلوقات إلى مساكنها ، ويستريحون من التعب ، والذهاب والإياب الذي حصل لهم في النهار .
{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } كلما جاء الليل ذهب النهار ، وكلما جاء النهار ذهب الليل ، وهكذا أبدا على الدوام ، حتى يطوي اللّه هذا العالم ، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار .
{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره وتدبيره ، الدال على ما له من أوصاف الكمال ، فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته ، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة علمه ، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له .
{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } أي : له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها ، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات ، فالخلق : يتضمن أحكامه الكونية القدرية ، والأمر : يتضمن أحكامه الدينية الشرعية ، وثم أحكام الجزاء ، وذلك يكون في دار البقاء ، { تَبَارَكَ اللَّهُ } أي : عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه ، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها ، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير ، فكل بركة في الكون ، فمن آثار رحمته ، ولهذا قال : ف { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
ولما ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك ، فقال : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } الآية ، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله ، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب ، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله ، وإنما يقال في البشر بإضافة ، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم اللهَ » بنصب الهاء ، وقوله { في ستة أيام } حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة ، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى ، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع ، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص ، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة ، ثم بقي دون خلق يوم السبت ، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها ، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره ، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون .
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي ، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية ، وقوله تعالى : { استوى على العرش } معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان ، وخص العرش بالذكر تشريفاً له إذ هو أعظم المخلوقات ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلاً في العرش سماه استواء .
قال القاضي أبو محمد : و { العرش } مخلوق معين جسم ما ، هذا الذي قررته الشريعة ، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال : العرش مصدر عرش يعرش عرشاً ، والمراد بقوله { استوى على العرش } هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُغشي » من أغشى ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يعشّي » بالتشديد من غشّى ، وهما طريقان في تعدية «غشي » إلى مفعول ثان ، وقرأ حميد «يغَشَى » بفتح الياء والشين ونصب «الليلَ » ورفع «النهارُ » ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليلُ » .
قال القاضي أبو محمد : وأبو الفتح أثبت و { حثيثاً } معناه سريعاً ، و { يطلبه حثيثاً } حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة ، ومن النهار بحسب المعنى ، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين ، ويحتمل أن يكون حالاً منهما ، ومثله قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } فيصح أن يكون { تحمله } حالاً منها ، وأن يكون حالاً منه وأن يكون حالاًَ منهما و { مسخرات } في موضع الحال ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و «الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ » بالرفع في جميعها ، ونصب الباقون هذه الحروف كلها ، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمسَ والقمرَ » بالنصب ، و «النجومُ مسخراتٌ » بالرفع .
و { ألا } استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد .
قال القاضي أبو محمد : وأخذ المفسرون { الخلق } بمعنى المخلوقات . أي هي له كلها وملكه واختراعه ، وأخذوا { الأمر } مصدراً من أمر يأمر ، وعلى هذا قال النقاش وغيره : إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تؤخذ لفظة { الخلق } على المصدر من خلق يخلق خلقاً أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم ، ويؤخذ { الأمر } على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله { وإليه يرجع الأمر كله } وبمنزلة قوله { وإلى الله ترجع الأمور } فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام .
قال القاضي أبو محمد : ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن { له الخلق والأمر } المصدرين حسب تقدمهما ، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله ، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئاً من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى : { ألا له الخلق والأمر } » ، قال النقاش : ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعاً في جميعها أنه مخلوق ، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق ، وقال الشعبي { الخلق } عبارة عن الدنيا و { الأمر } عبارة عن الآخرة ، و { تبارك } معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته ، ولا يوصف بها إلا الله تعالى ، و { تبارك } لا يتصرف في كلام العرب ، لا يقال منه يتبارك ، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان .
قال القاضي أبو محمد : وعلة ذلك أن { تبارك } لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلاً إذ الله قد تبارك في الأزل ، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك ؟ فقال يتبارك فوقف على أن العرب ، لم تقله ، و «الرب » السيد المصلح ، و { العالمين } جمع عالم .