قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم . قال بعضهم : هم الذين ذكرهم الله تعالى فقال :{ الذين آمنوا وكانوا يتقون } ، وقال قوم : هم المتحابون في الله .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب ، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء لقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة ، قال : وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم من هم ؟ قال : فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البشر ، فقال : هم عباد من عباد الله من بلدان شتى وقبائل ، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، ولا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا ، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن ، يفزع الناس ولا يفزعون ، ويخاف الناس ولا يخافون " . ورواه عبد الله بن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام قال : حدثنا شهر بن حوشب ، حدثني عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " سئل ! من أولياء الله ؟ فقال : الذين إذا رؤوا ذكر الله " . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : { إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم } " .
{ 62 - 64 ْ } { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ }
يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه ، ويذكر أعمالهم وأوصافهم ، وثوابهم فقال : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ } فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال .
{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ } على ما أسلفوا ، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال ، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ثبت لهم الأمن والسعادة ، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى .
استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله : { إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك } [ يونس : 61 ] الآية ، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد ، إذ أعلن الله للنبيء والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم ، ومن الحزن من جراء ذلك ، ولمح لهم بعاقبة النصر ، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم ، كما أشعر به قوله عقبه { لا تَبديل لكلمات الله } .
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه ، كما تقدم في قوله : { ألا إنهم هم المفسدون } في سورة [ البقرة : 12 ] ، ولذلك أكدت الجملة بإنَّ } بعد أداة التنبيه .
وفي التعبير ب { أولياء الله } دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله : { وما تعملون من عمل } [ يونس : 61 ] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم .
وجملة : { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر { إن } .
والخوف : توقع حصول المكروه للمتوقِّع ، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله . فيقال : خاف الشيْء ، قال تعالى : { فلا تخافوهم وخَافون } [ آل عمران : 175 ] . وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع : خاف عليه ، كقوله تعالى : { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 135 ] .
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن ( لا ) إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس ، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال ، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل ، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم ( لا ) وبناؤه على الفتح ، كما في قول إحدى نساء حديثِ أم زرع « زوجي كلَيْلِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة » فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح .
فمعنى { لا خوف عليهم } أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف ، أي هم بمأمنٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه ، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة ، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر ، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف ، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة ، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة ، أي لا خوف يخافه خائف عليهم ، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله ، كما قال تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ التوبة : 25 ، 26 ] ، وقال لموسى : { لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى } [ طه : 77 ] ، وقال : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض » ثم خرج وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر : 45 ] .
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله : { ولا هم يحزنون } فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير { أولياء الله } مع الابتداء به ، وإيراد الفعل بَعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم ، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله ، والخوف يكون قبل حصوله ، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون » فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر ، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم ، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله : { ولا هم يحزنون } لأن جملة : { هم يحزنون } يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي ، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصاً منه .
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم . ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم . وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا ، كقوله : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } [ طه : 67 ] . وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل ، وهو يبعد عن مفاد قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
والولي : الموالي ، أي المحالف والناصر . وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي ( بسكون اللام ) ، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي . وتقدم في قوله تعالى : { قل أغير الله اتخذ ولياً } في سورة [ الأنعام : 14 ] . وهو قرب من الجانبين ، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة . وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا ، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض ، أو يجعل جملة : { لا خوف عليهم } خبر { إنّ } ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفاً جارياً على الاستعمال ، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه .