قوله تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم }
اعلم أنا بينا أن قوله تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن } مما يقوي قلوب المطيعين ، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو ؟ ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه . فنقول : أما إن الوحي من هو ؟ فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول .
أما القرآن ، فهو قوله في هذه الآية : { الذين آمنوا وكانوا يتقون } فقوله : { آمنوا } إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله : { وكانوا يتقون } إشارة إلى كمال حال القوة العملية . وفيه مقام آخر ، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ، ثم نصف الولي بأنه كان متقيا في الكل . أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر ، فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال ، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصرا على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به ، وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبدا يكون في مقام الخوف والتقوى . وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ هذه الآية ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم » قال أهل التحقيق : السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع ، ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } وأما الأثر ، فقال أبو بكر الأصم : أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه ، وأما المعقول فنقول : ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذي يكون قريبا منه ، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال ، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله تعالى سبحانه ، فإن رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك تحرك في خدمة الله ، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ، فهذا الشخص يكون وليا لله تعالى ، وإذا كان كذلك كان الله تعالى وليا له أيضا كما قال الله تعالى { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } ويجب أن يكون الأمر كذلك ، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين . وقال المتكلمون : ولي الله من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة ، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي .
وأما قوله تعالى في صفتهم : { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف ، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه .
البحث الثاني : قال بعض المحققين : إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه : أحدها : أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصا لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » وعلى ما قال : «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات » وثانيها : أن المؤمن ، وإن صفا عيشه في الدنيا ، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد ، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى ، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى : { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } على أمر الآخرة ، فهذا كلام محقق ، وقال بعض العارفين : إن الولاية عبارة عن القرب فولي الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى ، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله ، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة ، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئا ، ولا يحزن بسبب شيء ، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به ، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى ، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن ؟ وهذه درجة عالية ، ومن لم يذقها لم يعرفها ، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة ، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية ، كما يحصل لغيره ، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له ، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه ، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها . والشيخ ما كان فازعا من تلك السباع ، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة ، فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟ فقال الشيخ : إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى .
المسألة الثانية : قال أكثر المحققين : إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محفل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وبقوله تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة } وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال : بل يحصل فيه أنواع من الخوف ، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.