قوله تعالى : { تلك حدود الله } . يعني : ما ذكر من الفروض المحدودة .
قوله تعالى : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } . قرأ أهل المدينة وابن عامر { ندخله جنات } ، و " ندخله ناراً " ، وفي سورة الفتح " ندخله ونعذبه " وفي سورة التغابن " نكفر " و " ندخله " وفي سورة الطلاق ( ندخله ) بالنون فيهن ، وقرأ الآخرون بالياء .
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها ، ولا القصور عنها ، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين .
ثم قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }{[195]} فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد ، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله ، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار . { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه ، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون .
أي : هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيها ، فلم يزد بعض الورثة ولم{[6770]} ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة ، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي ، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه . وهذا إنما يصدر عن{[6771]} عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شَهْر ابن حَوْشَب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرَّجُلَ لَيَعْمَل بعمل أهل الخير سبعين سَنةً ، فإذا أوْصَى حَافَ في وصيته ، فيختم{[6772]} بشر عمله ، فيدخل النار ؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله فيدخل{[6773]} الجنة " . قال : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } إلى قوله : { عَذَابٌ مُهِينٌ }{[6774]} .
[ و ]{[6775]} قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من{[6776]} سننه : حدثنا عَبْدَة{[6777]} بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد ، حدثنا [ نصر ]{[6778]} بن علي الحُدَّاني ، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني ، حدثني شَهْرُ بن حَوشَب : أن أبا هريرة حدثه : أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فَيُضَاران في الوصية ، فتجب لهما النار " وقال : قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } حتى بلغ : { [ وَ ]{[6779]} ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
وهكذا{[6780]} رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحُدَّاني به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل{[6781]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تلك حدود الله}: هذه القسمة فريضة من الله.
{ومن يطع الله ورسوله} في قسمة المواريث.
{يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لا يموتون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ}؛
وقال آخرون: تلك سنة الله وأمره.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبيّنوه، وهو أن حدّ كلّ شيء ما فصل بينه وبين غيره، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين: حدود، لفصولها بين ما حدّ بها وبين غيره، فكذلك قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ} معناه: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الآية على ما فرض وبين في هاتين الآيتين حدود الله، يعني: فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم. وإنما ترك طاعة الله، والمعنيّ بذلك حدود طاعة الله اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ}... والآية التي بعدها: {وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ}.
فتأويل الآية إذا: هذه القسمة التي قسم بينكم أيها الناس عليها ربكم مواريث موتاكم، فصول فصل بها لكم بين طاعته ومعصيته، وحدود لكم تنتهون إليها فلا تتعدّوها، وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم، وفيما نهاكم عنه منها.
ثم أخبر جلّ ثناؤه عما أعدّ لكلّ فريق منهم؛ فقال لفريق أهل طاعته في ذلك: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ} في العمل بما أمره به والانتهاء إلى ما حدّه له في قسمة المواريث وغيرها، ويجتنب ما نهاه عنه في ذلك وغيره¹ {يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}، فقوله: {يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ}: بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الأنهار، {خالِدِينَ فِيها}: باقين فيها أبدا، لا يموتون فيها، ولا يفنون، ولا يخرجون منها، {وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}: وإدخال الله إياهم الجنان التي وصفها على ما وصف من ذلك الفوز العظيم، يعني: الفَلَح العظيم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حدوده: أوامره ونواهيه، وما تعبَّد به عباده. وأصل العبودية حفظ الحدود، وصون العهود، ومَنْ حَفظَ حَدَّه لم يُصِبْهُ مكروه ولا آفة، وأصلُ كلِّ بلاء مجاوزة الحدود.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تِلْكَ} إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدوداً، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال: {تلك حدود الله} وفيه بحثان.
البحث الأول: أن قوله: {تلك} إشارة إلى ماذا؟ فيه قولان: الأول: أنه إشارة إلى أحوال المواريث. القول الثاني: أنه إشارة إلى كل ما ذكره من أول السورة إلى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم، حجة القول الأول أن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات، وحجة القول الثاني أن عوده إلى الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد مانع يوجب عوده إلى الكل.
البحث الثاني: أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها، وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره، ومنه حدود الدار، والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حدا له، لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه، وغيره هو كل ما سواه.
المسألة الثانية: قال بعضهم: قوله: {ومن يطع الله ورسوله} وقوله: {ومن يعص الله ورسوله} مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة، وقال المحققون: بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره، وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل. أقصى ما في الباب أن هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة، إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم، ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص، ثم يقول: احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور، فكذا ههنا والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره: {تلك} أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة، بل من أول القرآن {حدود الله} أي الملك الأعظم، فمن راعاها -ولو لم يقصد طاعته، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبئ عن البخل وسفول الهمة- نال خيراً كبيراً، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله {ومن يطع الله} الحائز لصفتي الجلال والإكرام {ورسوله} أي في جميع طاعاته هذه وغيرها، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه؛ قال الأصبهاني:"من" عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه.
ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر -على قراءة نافع وابن عامر بالنون- فقال: {ندخله جنات} أي بساتين، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات {تجري من تحتها الأنهار} أي لأن أرضها معدن المياه، ففي أي موضع أردت جرى نهر. فهي لا تزال يانعة غضة، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله: {خالدين فيها} تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان.
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد: {وذلك} أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها {الفوز العظيم} أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنها مطيعة راشدة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الإشارة في قوله تعالى: (تلك حدود الله) تتناول الأحكام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى ما قبل هذه الآية، أي أنه تعالى جعل تلك الأحكام حدودا لأعمال المكلفين ينتهون منها إليها ولا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتعدوها، وهكذا جميع أحكامه في المأمورات والمنهيات وكذا المباحات فإن لها حدودا إذا تجاوزها المكلف وقع في المحظور، فقد قال عز وجل: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأعراف: 30]. أقول: فمدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود وهي الشريعة ومدار العصيان على اعتدائها. ولذلك وصل هذه الجملة المبيِّنة كون تلك الأحكام حدودا بذكر الجزاء على الطاعة والعصيان مطلقا فقال: (ومن يطع الله ورسوله) الخ. طاعة الله تعالى هي اتباع ما شرعه من الدين على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) هي اتباع ما جاء به من الدين عن ربه عز وجل. فطاعته (صلى الله عليه وسلم) هي عين طاعة الله عز وجل كما قال في هذه السورة: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وسيأتي ذكر الآية مع تفسيرها، فما هي النكتة إذا في ذكر طاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع ذكر طاعة الله تعالى؟
قد يُقال: إن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما تتحدان فتكون الثانية عين الأولى فيما يسنده الرسول إلى ربه ويبيّن أنه بوحي منه. وقد يأمر الرسول بأشياء وينهى عن أشياء باجتهاده فإذا جزم بذلك ولم يقم دليل على أن الأمر للإرشاد أو الاستحباب والنهي للكراهة أو الاستهجان وجبت طاعته في ذلك، سواء كان في العبادات أو الأمور السياسية والقضائية لأنه إمام الأمة وحاكمها. وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يقر رسله على خطأ في اجتهادهم بل يبيّن لهم مع ذكر العفو عن عدم إعطاء الاجتهاد حقه الموصل إلى ما هو الصواب المرضي عنده عز وجل كقوله لنبينا (صلى الله عليه وسلم) عند ما أذن لبعض من استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك (عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم) [التوبة: 42] الآية أو مع العتاب كما عاتبه على اجتهاده الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في قبول الفداء من أسرى بدر بقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) [الأنفال: 66] الآيتين، وكما عاتبه في الإعراض عن الأعمى المسترشد في أول سورة: (عبس وتولى) [عبس: 1] الخ. ولا يدخل في هذا المقام ما يقوله (صلى الله عليه وسلم) في الأمور الدنيوية المحضة كالعادات والزراعة ونحوها لأنه ليس دينا ولا قضاء ولا سياسة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) في مسألة تأبير النخل:"أنتم أعلم بأمر دنياكم" كما في الصحيح.
الأستاذ الإمام: طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية وبعدها؛ وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم: أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر. وهذا خطأ من الإنسان. ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل. وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه ومرقيا له بدون معونة الدين.
أقول: يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: إننا نرى كثيرا من أفراد الناس لا يدينون بدين وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب وحسن الأعمال التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى أن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم وارتقائهم.
وأجيب عن هذا (أولا): بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية سواء كانت بدوية أو مدنية. وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها، فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع أو على سبيل الظن. وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظا تاما إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دوّن في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالنصيرية وسائر الباطنية وغيرهم ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل حتى أنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها!! فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي. وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر (هربرت سبنسر) أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه وأن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين وبناءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا يحدد ضررها. هذا معنى كلامه في بعض كتبه. وقد قال هو للأستاذ الإمام في حديث له معه: إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنكليزية وضعفت في هذه السنين الأخيرة من حيث قوي فيها الطمع المادي. ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد أمم أوروبا تمسكا بالدين مع كون مدنيتها أثبت وتقدمها أعم، لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوروبية بعيدة عن روح الديانة المسيحية وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير وإذا لبادت مدنيتهم سريعا. ومن يقول إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد: أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا كما تسوقه إلى سعادة الآخرة.
و (ثانيا): إنه لا يمكن الجزم بأن فلانا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يُقال: إنه قد استغنى في ذلك عن الدين لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربى أولادها على الإلحاد. وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينا واتباعا لآداب دينهم وفضائله ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشؤوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان وآرائه ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال ولو من الحرام كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقى ما يجعله حقيرا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن وكالعفة في الشهوات فيبيح له من الفواحش ما لا يخل بالشرط المذكور آنفا. هذا إذا كان راقيا في أفكاره وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل إلا القوة القاهرة، ولولا أن دول أوروبا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال؛ ولعمت بلادها الفوضى والاختلال. ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب والأحكام- فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا، على أن السياق هنا قد جاء لما يتعلق بالسعادة الدائمة في الحياة الأخرى. ولذلك كان جزاء الشرط في الطاعة هو قوله تعالى:
(يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة وإننا نؤمن بتلك الجنات والحدائق وأنها أرقى مما نرى في هذه الدنيا وانه ليس لنا أن نبحث عن كيفيتها. لأنها من عالم الغيب وقد أفرد الضمير في قوله: (يدخل) مراعاة للفظ (ومن يطع) الخ وجمع الوصف الذي هو حال منه في قوله: (خالدين فيها) مراعاة لمعناها فإن (من) من الألفاظ المفردة التي تدل على العموم كما هو معلوم، وتقدم تفسير الخلود من قبل وسيأتي في آيات كثيرة أيضا (وذلك الفوز العظيم) لأنه الصافي الدائم الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالشوائب والأكدار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة. قاعدة التلقي من الله وحده، وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين.
وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيبا نهائيا على تلك الوصايا والفرائض. حيث يسميها الله بالحدود:
(تلك حدود الله. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها، وله عذاب مهين)..
تلك الفرائض، وتلك التشريعات، التي شرعها الله لتقسيم التركات، وفق علمه وحكمته، ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.. (تلك حدود الله).. حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات، ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم.
ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم. كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين..
لماذا؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث؛ وفي جزئية من هذا التشريع، وحد من حدوده؟
إن الآثار تبدو أضخم من الفعل.. لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق..
إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيئ. وقد أشرنا إليها في وهي النصوص التي تبين معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر -على وجه الإجمال- بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين، في هذا التعقيب على آيتي المواريث:
إن الأمر في هذا الدين -الإسلام- بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ.. إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟
وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين!
لله وحده -بلا شريك من خلقه- فهو الإيمان إذن، وهو الإسلام، وهو الدين.
لشركاء من خلقه معه، أو لشركاء من خلقه دونه، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين.
وأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده، فهي الدينونة من العباد لله وحده. وهي العبودية من الناس لله وحده. وهي الطاعة من البشر لله وحده، وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك.. فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم. والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم. والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم.. وليس لغيره -أفرادا أو جماعات- شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله. لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية. ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة.
وأما أن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله -شركة مع الله أو أصالة من دونه!- فهي الدينونة من العباد لغير الله. وهي العبودية من الناس لغير الله. وهي الطاعة من البشر لغير الله. وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين، التي يضعها ناس من البشر، لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه؛ إنما يستندون إلى أسناد أخرى، يستمدون منها السلطان.. ومن ثم فلا دين، ولا إيمان، ولا إسلام. إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان..
هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد، أو في الشريعة كلها.. لأن الأمر الواحد هو الدين -على ذلك المعنى- والشريعة كلها هي الدين.. فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس.. أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله -بكل خصائصها- أو إشراك أحد من خلقه معه. أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض. مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين! ومهما رددت ألسنتهم -دون واقعهم- أنهم مسلمون!
هذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يشير إليها هذا التعقيب، الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة، وبين طاعة الله ورسوله، أو معصية الله ورسوله. وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها؛ ونار خالدة وعذاب مهين!
وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي تتكئ عليها نصوص كثيرة، في هذه السورة، وتعرضها عرضا صريحا حاسما، لا يقبل المماحكة، ولا يقبل التأويل.
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام، وأين حياتهم من هذا الدين!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد كانت أحكام المواريث مظنة التلاعب في الماضي، ولا تزال حقوق النساء فيها موضع التلاعب إلى اليوم، ولذلك أكد الله سبحانه حق الميراث بقوله: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} أي أن الميراث حد رسمه الله تعالى، فمن أطاع الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما. وإن ذكر الجنات في هذا المقام له موضعه؛ لأن هذا الذي يترك التوزيع لله تعالى، ويتغلب على هوى نفسه فيمن يحب أو يكره يجزيه الله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذا الجزاء هو الفوز العظيم؛ لأن فيه النجاة وفيه النعيم، فمن فعله فقد نال الحسنيين، فإذا كان قد تغلب على منازع الدنيا، فقد نال نعيم الآخرة، ومن ينظر إلى مآل ماله عليه أن ينظر قبل كل شيء إلى مآل شخصه.