اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

لما بَيَّنَ سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ، ترغيباً في الطَّاعة وترهيباً عن المعصية .

وقوله تعالى : { تِلْكَ } إشارة إلى ما ذكر من المواريث ؛ لأنَّ الضَّمير يعود إلى أقرب مذكورٍ .

وقيل : إشارة إلى كُلِّ ما ذكر من أوَّلِ السُّورة إلى هنا من أحكام أموال اليتامى ، والأنكحة ، وأحكام المواريث ، قاله الأصمُّ{[6891]} ؛ لأنَّ الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد وجب عوده إلى الكُلِّ ؛ ولأنَّ المراد بحدود اللَّهِ : الأحكام التي ذكرها وبيَّنها ، ومنه حدود الدّار ؛ لأنَّها تميزها من غيرها .

قوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وقوله : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .

قيل : مختصٌّ بمن أطاع أو عصى في هذه التَّكاليف المذكورة في هذه السُّورة .

وقال المحقِّقُون{[6892]} : بل هو عام ؛ لأنَّ اللَّفظَ عامٌّ فيتناول الكُلَّ .

قوله : { يُدْخِلْهُ } حَمَلَ على لفظ " مَنْ " ، فَأفْرَدَ الضَّميرَ في قوله : { يُطِعِ اللَّهَ } و { يُدْخِلْهُ } وعلى معناها ، فجمع في قوله : { خَالِدِينَ } وهذا أحسنُ الحَمْلَيْنِ ، أعني : الحمل على الَّلفظ ، ثم على المعنى ، ويجوز العكس ، وإن كان ابن عطيَّة قد منعه وليس بشيء لثبوته عن العرب ، وَقَد تَقَدَّمَ ذلك مِرَاراً ، وفيه تفصيلٌ ، وله شروط مذكورة في كتب النحوِ .

قوله : { خَالِدِينَ } في نصبه وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ حال من الضمير المنصوب في { يُدْخِلْهُ } وَلاَ يَضُرُّ تَغَايُرُ الحال وصاحبها من حيث كانت جمعاً وصاحِبُها مفرداً ، لما تقدَّم من اعتبار الَّلفْظِ والمَعْنَى وهي مقدّرة ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول .

والثَّاني : أن يكون نَعْتاً ل { جَنَّاتٍ } من باب ما جَرَى على موصوفه لَفْظاً ، وهو لغيره معنىً{[6893]} ، نحو : مررت برجُلٍ قائمةٍ أمُّه ، وبامرأة حَسَنٍ غُلامُها ، ف " قائمة " وحسنٍ وإن كانا جَارِيينِ على ما قبلهما لَفْظاً فهما لِما بَعْدَهما معنىً ، وأجازَ ذلك في الآية الكريمة الزَّجَّاجُ وتبعه التبرِيزيُّ ، إلاَّ أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب إبرازُ الضَّمير مطلقاً على مذهب البصريين ألْبسَ أو لم يُلْبسْ .

وَأمَّا الكوفيون فيفصِّلون ، فيقولون : إذا جرت الصِّفة على غير مَنْ هي له ، فإنْ ألْبسَ وَجَبَ إبرازُ الضمير ، كما هو مذهبُ البصريين ؛ نحو : " زيدٌ عمرو ضاربُه هو " ، إذا كان الضربُ واقعاً من زيد على عمرو ، فإن لم يُلْبسْ لم يَجِبِ الإبرازُ ، نحو : " زيدٌ هندُ ضاربُها " ، إذا تَقَرَّرَ هذا فَمذهَبُ الزَّجَّاجِ في الآية إنَّمَا يتمشَّى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حَسَنٌ .

واستدلَّ مَنْ نَصَرَ مذهب الكوفيين بالسَّمَاعِ ، فمنه قراءة مَنْ قرأ{[6894]} { إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب :53 ] بجر " غير " مع عدم بروز الضمير ، ولو أبْرَزَهُ لقال : غير ناظرين إناه أنتم .

ومنه قول الآخر : [ البسيط ]

قَوْمِي ذُرَا المَجْدِ بَانُوهَا وَقَدْ عَلِمَتْ *** بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ{[6895]}

ولم يقل : بَانُوهَا هُمْ .

وقد خَرَّج بعضهمُ البيت على حذف مبتدأ ، تقديره : هم بانوها{[6896]} ف " قومي " مبتدأ أوَّلٌ ، و " ذُرا " مبتدأ ثان ، و " هُمْ مبتدأ ثالث ، و " بانوها " {[6897]} خبر الثَّالث والثَّالِثُ وخبره خبر الثَّاني والثاني وخبره خبر الأوَّل .

وقد منع الزمخشريُّ كون " خَالِدينَ " و " خَالِداً " صفةٌ ل " جَنَّاتِ " و " ناراً " . فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين ل " جنات " و " ناراً " ؟ قلت : لا لأنَّهما جَرَيَا على غير مَنْ هُمَا له ، فلا بُدَّ مِنْ الضَّميرِ في قولك : " خالدين هم فيها " ، و " خالداً هو فيها " .

ومنع أبُو البَقَاءِ ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع " خالداً " ولم يتعرض لذلك مع " خالدين " ولا فرق بَيْنَهُما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدَّمَ .

وقرأ{[6898]} نافعٌ وابنُ عَامِرٍ هنا " نُدْخِلْهُ " في الموضعين ، وفي سورة الفتح [ الآية 17 ] وفي سورة التغابن [ الآية 9 ] والطلاق [ الآية 11 ] بنون العظمة ، والباقون بالياء ، والضميرُ للَّه تعالى .

فإن قيل : كيف جمع { خَالِدِينَ } في الطائعين ، وأفرد خالداً في العاصين ؟ .

فالجواب : قالوا : لأنَّ أهلَ الطَّاعة أهلُ الشَّفاعة ، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هو والمشفوُعُ لهم ناسب ذلك الجمع ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرهُ النارَ ، فناسَبَ ذلك الإفرادُ .

قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } هذه الجملةُ في محل نصبِ صفةً ل " جنات " ، وقد تقدم مراراً أن المنصوب بعد " دخل " من الظروف هل نَصْبُهُ نصبُ الظُّروف ، أو نَصْبُ المفعول به ؟

الأوَّل : قول الجمهور .

والثاني : قول الأخفش ، فكذلك { جَنَّاتٍ } ، و { نَاراً } .

فصل

قالت المعتزلةُ{[6899]} : هذه الآية دلَّت على أنَّ العصاة من أهل الصَّلاة يخلدون في النَّار ؛ لأنَّ قوله { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } إمَّا أن يختص بمن تعدَّى الحدود المتقدمة ، وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى هذا يلزمُ دخول من تَعَدَّى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تَعَدَّى ، وهو مِنْ أهل الصَّلاة ، أو ليس من أهل الصَّلاة فدلّت هذه{[6900]} الآية على القطع بالوعيد وعلى الخلود ، ولا يقال على هذا الوعيد مختص بمن تَعَدَّى حدودَ اللَّهِ ، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ في حقِّ الكافر ، فإنَّهُ هو الَّذي تعدّى جميعَ حدودَ اللَّه ، فَإنَّا نقولُ : هذا مدفوع من وجهين :

الأوَّلُ : أنَّا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود اللَّه خرجت الآية عن الفائدة ، لأنَّ اللَّه تعالى نهى عن اليهوديَّةِ والنَّصرانية ، والمجوسيَّة ، فتعدي جميع هذه النَّواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والنصرانية والمجوسية معاً ، وذلك محال ، فثبت أن تعدي جميع حدود اللَّه محالٌ ، وإذا كان كذلك علمنا أنَّ المراد منه أي حدٍّ كان من حدود اللَّه .

الثَّاني : أنَّ هذه الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكونُ المراد فيها التّعدي في الحدود المذكورة في قسمة الموارث .

وأجيب{[6901]} بأنَّا أجمعنا على أنَّ هذا الوعيد مختصٌّ بعدم التَّوْبَةِ ؛ لأنَّ الدَّليل دَلَّ على أنَّهُ إذا تابَ لم يبق هذا الوعيد فكذلك يجوز أن يكون مشروطاً بعدم العَفْوِ ، فإنَّ بتقدير{[6902]} قيام الدلالة على حصول العفو يمتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفوِ ، ونَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدلائل{[6903]} الدّالة على حصول العفو ، ثمَّ نقول : هذا العموم مخصوصٌ بالكافر{[6904]} لوجهين :

الأوَّلُ : أنا إذا قلنا لكم : ما الدَّليلُ على أنَّ كلمة " من " في معرض الشَّرط تفيد العموم ؟ قلتم : لأنَّهُ يصحُّ الاستثناء ، [ منه ، والاستثناء ]{[6905]} يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : إنْ صح هذا الدَّليل فهو يَدُلُّ على أنَّ قوله { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يختص بالكافرِ ؛ لأن جميع المعاصي يَصِحُّ استثناؤها من هذا اللفْظِ ، فَيُقَال : ومن يعص الله ورسوله إلاَّ فِي الكُفْرِ ، وإلاَّ في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فهذا يقتضي{[6906]} أن قوله : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } في جميع أنواع المعاصي والقبائح ، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ فِي حَقِّ الكافِرِ ، وقوله{[6907]} : الإتيان بجميع المعاصي محال قال : وذلك لأنَّ الإتيان باليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسية معاً محال ، فنقول : ظاهر اللَّفظ يقتضي العموم إلاَّ إذَا قَامَ مُخَصَّصٌ عقليّ أو شرعيّ ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم .

والوجه الثاني : في بيان تخصيص العموم بالكافر ، أنَّ قوله : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يفيد كونه فاعلاً للمعصية والذّنب ، فقوله : " ويتعد حدوده " لو كان المرادُ منه عينُ ذلك للزم التّكرار ، وهو خلافُ الأصْلِ فوجب حمله على الكفر ، وقولهم : تحمل هذه الآية على تعدّي الحدود المذكورة في المواريث .

قلنا : هَبْ أنَّ الأمرَ كذلك إلاَّ أنَّهُ يسقط ما ذكرناه من السُّؤال بهذا الكلام ؛ لأنَّ التَّعدي في حدود المواريث تارة [ يكون ]{[6908]} بأن يعتقد أنَّ تلك التَّكاليف ، والأحكام حقٌّ وواجبة القبول ، إلاَّ أنَّهُ يتركها ، وتارة [ يكون ]{[6909]} بأن يعتقد أنَّهَا واقعة لا على وجه الحكمة والصَّواب ، فيكون هذا هو الغاية من تعدي الحدود وأمَّا{[6910]} الأوَّلُ فلا يكاد يطلقُ في حَقِّهِ أنه تعدى حدود اللَّهِ ، وَإلاَّ لزم وقوع التَّكرار ، فعلمنا أنَّ هذا الوعيد مختصّ بالكافر الذي لا يرضى بما قسمه اللَّهُ من المواريث .

فصل

قال ابن عبَّاسٍ{[6911]} : الإضرار في الوصيَّة من الكبائر ؛ لأنَّهُ عَقَّبَ هذه الآية بالوعيد .

وفي الحديث " إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلَ بعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَحِيفُ فِي وَصِيَّتِهِ فيختم له [ اللَّهُ ]{[6912]} بشر عمله فيدخل النار ، وإنَّ الرَّجل ليعمل بعمل أهل النَّار سبعين سنةً فيعدلُ في وصيَّتِه فيختم له بخير فيدخل الجنة " .

وفي الحديث : " مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فرضه اللَّهُ قطع اللَّهُ ميراثه من الجنة " {[6913]} والزيادة في الوصيَّة{[6914]} تدل على الحسرة الشديدة وذلك من أكبر الكبائر .


[6891]:ينظر: تفسير الرازي 9/184.
[6892]:ينظر: المصدر السابق.
[6893]:في أ: وهو لغير مذكور معنى.
[6894]:ستأتي في الأحزاب.
[6895]:ينظر أوضح المسالك 1/196، وتخليص الشواهد ص 186، والدرر 2/9، وشرح الأشموني 1/93، وشرح التصريح 1/162، وشرح ابن عقيل ص 109، وهمع الهوامع 1/96 والدر المصون 2/328.
[6896]:في أ: بأبوها.
[6897]:في أ: بأبوها.
[6898]:انظر: السبعة 228، والحجة 3/140، وحجة القراءات 193، والعنوان 83، وإعراب القراءات 1/130، وشرح شعلة 335، وشرح الطيبة 4/195، وإتحاف 1/505.
[6899]:ينظر: الرازي 9/184، 185.
[6900]:في أ: قدمت.
[6901]:في أ: وأجيبوا.
[6902]:في أ: بتقديم.
[6903]:في أ: الدليل.
[6904]:في أ: للكافر.
[6905]:سقط في أ.
[6906]:في ب: فهاهنا.
[6907]:في ب: وقولهم.
[6908]:سقط في أ.
[6909]:سقط في أ.
[6910]:في ب: فأما.
[6911]:ينظر: تفسير الرازي 9/183.
[6912]:سقط في ب.
[6913]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/128) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى مرسلا. وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (30400) وعزاه إلى سعيد بن منصور عن سليمان بن موسى مرسلا.
[6914]:زيادة في ب" قطع من الميراث ولأن مخالفة أمر الله تعالى عند القرب من الموت".