الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

قوله تعالى : { يُدْخِلْهُ } : حَمَلَ على لفظ " مَنْ " فَأْفْرَدَ الضميرَ في قوله : " يُطِعْ " و " يُدْخِلْه " ، وعلى معناها فجمع في قوله " خالدين " . وهذا أحسنُ الحَمْلين ، أعني الحملَ على اللفظ ثم المعنى ، ويجوزُ العكس وإن كان ابن عطية قد منعه ، وليس بشيء لثبوتِه عن العرب ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرةٍ وفيه تفصيلٌ ، وله شروط مذكورةٌ في كتب النحو .

وفي نصبِ " خالدين " وجهان ، أظهرهما : أنه حال من الضمير المنصوبِ في " يُدْخِلُه " ، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى ، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ .

والثاني : أن يكونَ نعتاً ل " جنات " من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو : مررت برجلٍ قائمةٍ أمه ، وبامرأة حسنٍ غلامُها ، ف " قائمة " و " حسنٍ " وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً ، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي ، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين : أَلْبس أو لم يُلْبِس . وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون : إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له : فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو : " زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو " إذا كان الضرب واقعاً من زيد على عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو : " زيدٌ هندٌ ضاربُها " ، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حسن .

واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع ، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ : { إِلَى طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] بجر " غير " مع عدمِ بروزِ الضمير ، ولو أَبْرزه لقال : " غيرِ ناظرين إناه أنتم " ومنه قولُ الآخَر :

قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ *** بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ

ولم يقل : بانُوها هم ، وقد خَرَّج بعضُهم البيت على حذف مبتدأ تقديره : هم بانوها ، ف " قومي " مبتدأ أول " و " ذرا " مبتدأ ثان ، و " هم " مبتدأ ثالث ، و " بانوها " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .

وقد منع الزمخشري كونَ " خالدين " و " خالداً " صفةً ل " جنات " و " ناراً " بعدم بروز الضمير فقال : " فإنْ قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين ل " جنات " و " ناراً " ؟ قتل : لا ، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له ، فلا بد من الضمير في قولك : " خالدين هم فيها ، وخالداً هو فيها " .

ومَنَع أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع " خالداً " ، ولم يتعرض لذلك مع " خالدين " ، ولا فرق بينهما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنعُ على مذهبِ البصريين كما تقدم .

وقرأ نافع وابن عامر هنا " نُدْخِلْه " في الموضعين ، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنونِ العظمة ، والباقون بالياء ، والضمير لله تعالى ، وإنما جمع " خالدين " في الطائعين ، وأَفْرَد " خالداً " في العاصين ، قالوا : لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ الشفاعة ، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإِفرادُ .

والجملةُ من قولِه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } في محلِّ نصبٍ صفةً ل " جنات " وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد " دخل " من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف أو نصبُ المفعولِ به ؟ الأول قول الجمهور ، والثاني قول الأخفش ، فكذلك " جنات " و " ناراً " .