قوله تعالى : { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } أي : ليس لهم ذلك ، { فليرتقوا في الأسباب } أي : إن ادعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ، قال مجاهد و قتادة : أراد بالأسباب : أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء ، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز .
{ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون . { فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } الموصلة لهم إلى السماء ، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه ، فكيف يتكلمون ، وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به ؟ ! أم قصدهم التحزب والتجند ، والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق ؟ وهو الواقع .
{ أم } في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في { أم } [ ص : 9 ] الأولى ، وكأنه تعالى يقول في هذه الآية : أم لهم هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان الأمر كذلك ، أي إلى السماء ، قاله ابن عباس . و { الأسباب } : كل ما يتوصل به إلى الأشياء ، وهي هنا بمعنى الحبال والسلاليم . وقال قتادة : أراد أبواب السماء .
إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مزاعمهم ويشمل بإجماله جميع النقوض التفصيلية لمزاعمهم بكلمة جامعة كالحوصلة فيشبه التذييل لما يتضمنه من عموم المُلك وعموم الأماكن المقتضي عموم العلم وعمومَ التصرف ينعَى عليهم قولهم في المغيبات بلا علم وتحكمهم في مراتب الموجودات بدون قدرة ولا غنى .
والاستفهام المقدر بعد { أم } المنقطعة تهكمي وليس إنكارياً لأن تفريع أمر التعجيز عليه يعيّن أنه تهكمي . فالمعنى : إن كان لهم مُلك السماوات والأرض وما بينهما فكان لهم شيء من ذلك فليصعدوا إن استطاعوا في أسباب السماوات ليَخبُروا حقائق الأشياء فيتكلموا عن علم في كنه الإله وصفاته وفي إمكان البعث وعدمه وفي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضده وليفتحوا خزائن الرحمة فيفيضوا منها على من يعجبهم ويحرموا من لا يرْمقونه بعين استحسان .
والأمر في { فليرتقوا } للتعجيز مثل قوله : { فليمدد بسبب إلى السماء } [ الحج : 15 ] .
والتعريف في { الأسْبابِ } لعهد الجنس لأن المعروف أن لكل محل مرتفع أسباباً يُصعد بها إليه كقول زهير :
ومن هاب أسباب المنايَا ينلْنه **** وإن يرق أسباب السماء بسلّم
فلو كنتَ في حِبّ ثمانين قامة *** ورُقيتَ أسباب السماء بسُلّم
والسبب : الحبل الذي يَتعلق به الصاعد إلى النخلة للجذاذ ، فإن جعل من حبلين ووصل بين الحبلين بحبال معترضة مشدودة أو بأعواد بين الحبلين مضفورٍ عليها جنبتَا الحبلين فهو السُلَّم . وحرف الظرفية استعارة تبعية للتمكن من الأسباب حتى كأنها ظروف محيطة بالمرتقين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما} كفار قريش يقول: ألهم ملكهما وأمرهما، بل الله يوحي الرسالة إلى من يشاء.
الأسباب: الأبواب التي في السماء، فليستمعوا إلى الوحي حين يوحي الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عزّة وشقاق "مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما "فإنه لا يُعازّني ويُشاقّني من كان في مُلكي وسلطاني. وقوله: "فَلْيَرتَقُوا فِي الأسْبابِ"، يقول: وإن كان لهم مُلك السموات والأرض وما بينهما، فليصعدوا في أبواب السماء وطرقها، فإن كان له مُلك شيء لم يتعذّر عليه الإشراف عليه، وتفقّده وتعهّده.
واختلف أهل التأويل في معنى الأسباب التي ذكرها الله في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عُنِي بها أبواب السماء... عن مجاهد، قوله: "فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ"، قال: طرق السماء وأبوابها...
وأصل السبب عند العرب: كل ما تسبّب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة، أو رحم، أو قرابة أو طريق، أو محجة، وغير ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ألهم ملك السماوات والأرض ليملكوا ما شاءوا من الأمور، ويختاروا وضع الرسالة في من شاءوا هم؟ أي ليس لهم ملك السماوات والأرض فيملكوا ما يذكرون، ويختارون، وإن قالوا: بل نملك ذلك، وإلينا ذلك، فعند ذلك قل لهم: {فليرتقوا في الأسباب}.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فليرتقوا في الأسباب} وهذا أمر توبيخ وتعجيز...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها ربّ العزّة والكبرياء، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له.
{فَلْيَرْتَقُواْ فِي الأسباب}: فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون...
اعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الكلام مغايرا للمراد من قوله: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} والفرق أن خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ومن جملة تلك الخزائن هو هذه السماوات والأرض، فلما ذكرنا الخزائن أولا على عمومها أردفها بذكر {ملك السماوات والأرض وما بينهما} يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله، فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم، فبأن تكونوا عاجزين عن كل خزائن الله كان أولى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
دعوى لا يجرؤون على ادعائها. ومالك السماوات والأرض وما بينهما هو الذي يمنح ويمنع، ويصطفي من يشاء ويختار؛ وإذ لم يكن لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فما بالهم يدخلون في شؤون المالك المتصرف فيما يملك بما يشاء؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مزاعمهم ويشمل بإجماله جميع النقوض التفصيلية لمزاعمهم بكلمة جامعة كالحوصلة، فيشبه التذييل لما يتضمنه من عموم المُلك وعموم الأماكن المقتضي عموم العلم وعمومَ التصرف، ينعَى عليهم قولهم في المغيبات بلا علم وتحكمهم في مراتب الموجودات بدون قدرة ولا غنى...
والاستفهام المقدر بعد {أم} المنقطعة تهكمي وليس إنكارياً لأن تفريع أمر التعجيز عليه يعيّن أنه تهكمي.
الأمر في {فليرتقوا} للتعجيز...
التعريف في {الأسْبابِ} لعهد الجنس؛ لأن المعروف أن لكل محل مرتفع أسباباً يُصعد بها إليه، والسبب: الحبل الذي يَتعلق به الصاعد إلى النخلة للجذاذ، فإن جعل من حبلين ووصل بين الحبلين بحبال معترضة مشدودة أو بأعواد بين الحبلين مضفورٍ عليها جنبتَا الحبلين فهو السُلَّم...
حرف الظرفية استعارة تبعية للتمكن من الأسباب حتى كأنها ظروف محيطة بالمرتقين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم، وإنّما هي تحت تصرّف البارئ عزّ وجلّ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله، وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه، وعلى هذا، فلا «المقتضي» تحت اختياركم، ولا القدرة على إيجاد «المانع»، فماذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذاً، موتوا بغيظكم وحسدكم، وافعلوا ما شئتم.. وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعاً واحداً كما توهّمه مجموعة من المفسّرين، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانباً من جوانب الموضوع...