قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } قال عطاء : بالشك والنفاق ، وقال الكلبي : بالرياء والسمعة ، وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر . وقال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال . وقال مقاتل : لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم ، نزلت في بني أسد ، وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى .
{ 33 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم ، وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية ، وهو : طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه ، والطاعة هي امتثال الأمر ، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام المتابعة .
وقوله : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها ، بما يفسدها ، من من بها وإعجاب ، وفخر وسمعة ، ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها الأعمال ، ويحبط أجرها ، ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها ، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها .
فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها ، كلها داخلة في هذا ، ومنهي عنها ، ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض ، وكراهة قطع النفل ، من غير موجب لذلك ، وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال ، فهو أمر بإصلاحها ، وإكمالها وإتمامها ، والإتيان بها ، على الوجه الذي تصلح به علما وعملا .
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ؛ ولهذا قال : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } أي : بالردة ؛ ولهذا قال بعدها : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } الآية .
اعتراض بين جملة { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول } [ محمد : 32 ] ، وبين جملة { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتُوا وهم كفار } [ محمد : 34 ] وُجه به الخطاب إلى المؤمنين بالأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يبطل الأعمال الصالحة اعتباراً بما حكي من حال المشركين في الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فوصف الإيمان في قوله : { يا أيها الذين آمنوا } مقابل وصف الكفر في قوله : { إن الذين كفروا } [ محمد : 32 ] ، وطاعة الله مقابل الصدّ عن سبيل الله ، وطاعةُ الرسول ضد مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم والنهي عن إبطال الأعمال ضد بطلان أعمال الذين كفروا . فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها هي امتثال ما أمَر به ونهَى عنه من أحكام الدين . وأما ما ليس داخلاً تحت التشريع فطاعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه طاعة انتصاح وأدب ، ألا ترى أن بريرة لم تطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراجعة زوجها مُغيث لما علمتْ أن أمره إياها ليس بعزم .
والإبطال : جعل الشيء باطلاً ، أي لا فائدة منه ، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة .
ومعنى النهي عن إبطالهم الأعمالَ : النهي عن أسباب إبطالها ، فهذا مهيع قوله : { ولا تبطلوا أعمالكم } . وتسمح محامِله بأن يشمل النهي والتحذير عن كل ما بيَّن الدِينُ أنه مبطل للعمل كلاًّ أو بعضاً مثل الردة ومثل الرياء في العمل الصالح فإنه يبطل ثوابه . وهو عن ابن عباس قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] . وكان بعض السلف يخشى أن يكون ارتكاب الفواحش مبطلاً لثواب الأعمال الصالحة ويحمل هذه الآية على ذلك ، وقد قالت عائشة لما بلغها أن زيد بن أرقم عقد عقداً تراه عائشة حراماً : أخبروا زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يترك فعله هذا ولعلها أرادت بذلك التحذير وإلا فما وجهُ تخصيص الإحباط بجهاده وإنما علمتْ أنه كان أنفس عمل عنده .
وعن الحسن البصري والزهري : لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي الكبائر . ذكر ابن عبد البرّ في « الاستيعاب » : « أن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة وغزوتُ منها معه سبع عشرة غزوة . وهذه كلها من مختلف الأفهام في المعنيّ بإبطال الأعمال وما يبطلها وأحسن أقوال السلف في ذلك ما رويَ عن ابن عمر قال : « كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى نزل { ولا تبطلوا أعمالكم } ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فكففنا عن القول في ذلك وكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها » اه . فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها .
وعن مقاتل { لا تبطلوا أعمالكم } بالمنّ وقال : هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضاً قوله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تَمنّوا علي إسلامكم } [ الحجرات : 17 ] .
وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع ، والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة أن الحسنات يُذهبن السيئات ولم يجىء : أن السيئات يذهبن الحسنات ، وقال : { إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويُؤتِ من لدنه أجراً عظيماً } [ النساء : 40 ] .
وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات . ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله : { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] ، ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة . ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها . وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار ، فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار .
وحمل بعض علمائنا قوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى . وإطلاق الإبطال على القطع وعدممِ الإتمام يشبه أنه مجاز ، أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه ، فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال ، وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقاً . ونسب ابن العربي في الأحكام مثلَه إلى مالك . ومثله القرطبي وابن الفرس . ونقل الشيخ الجد في « حاشيته على المحلّى » عن القرافي في « شرح المحصول » ونقل حلولو في « شرح جمع الجوامع » عن القرافي في « الذخيرة » : أن مالكاً قال بوجوب سبْع نوافل بالشروع ، وهي : الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحو الوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد ، وزاد حُلولو إلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولو في الأخير . ولم ير الشافعي وجوباً بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر .