قوله تعالى : { وما تنقم منا } ، أي : ما تكره منا ، وقال الضحاك وغيره : وما تطعن علينا ، وقال عطاء : مالنا عندك من ذنب تعذبنا عليه .
قوله تعالى : { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } ثم فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا : قوله تعالى : { ربنا أفرغ } اصبب .
قوله تعالى : { علينا صبراً وتوفنا مسلمين } ، ذكر الكلبي : أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، وذكر غيره : أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : { لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] .
{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا } أي : وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا ؟ فليس لنا ذنب { إِلا أَنْ آمَنَّا } ب[ آيَاتِ ] ربنا [ لما جاءتنا ]{[324]} فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه ، ويستحق صاحبه العقوبة ، فهو ذنبنا .
ثم دعوا اللّه أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ } أي : أفض { عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عظيما ، كما يدل عليه التنكير ، لأن هذه محنة عظيمة ، تؤدي إلى ذهاب النفس ، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير ، ليثبت الفؤاد ، ويطمئن المؤمن على إيمانه ، ويزول عنه الانزعاج الكثير .
{ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمرك ، متبعين لرسولك ، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه ، وأن اللّه تعالى ثبتهم على الإيمان .
وقول السحرة : { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي : قد تحققنا أنا إليه راجعون ، وعذابه أشد من عذابك ، ونكاله{[12019]} ما تدعونا إليه ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، أعظم{[12020]} من نكالك ، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله ، لما قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عمنا بالصبر على دينك ، والثبات عليه ، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : متابعين لنبيك موسى ، عليه السلام . وقالوا لفرعون : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا } [ طه : 72 - 75 ] فكانوا في أول النهار سحرة ، فصاروا في آخره{[12019]} شهداء بررة .
قال ابن عباس ، وعُبَيد بن عُمَيْر ، وقتادة ، وابن جُرَيْج : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخره شهداء .
{ وما تنقم منا } وما تنكر منا . { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : { ربنا أفرغ علينا صبرا } أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون . { وتوفّنا مسلمين } ثابتين على الإسلام . قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به . وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } .
وقرأ جمهور الناس «تنقِم » بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهشم وابن أبي عبلة ، والحسن بن أبي الحسن «تنقَم » بفتحها وهم لغتان ، قال أبو حاتم : الوحه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات :
ما نقَموا من بني أمية . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . .
بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به ؟ وقولهم { أفرغ علينا صبراً } معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات .
النّقْم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع { ومَا تنقمُ } بكسر القاف .
والاستثناء في قولهم : { إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } متصل ، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
وجملة { ربنا أفرغ علينا صبراً } من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها .
ومعنى قوله : { ربنا أفرغ علينا صبراً } اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون .
ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبراً قوياً ، يفوق المتعارف ، فشبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صبّ جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية .
وتقدم نظيره في قوله تعالى : { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } في سورة البقرة ( 250 ) .
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة ، والفوزَ بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلاً ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة .
والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة .
وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات ( 26 ) : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية .
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جواباً .
وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام .
والظاهر أن { كلمة مسلمين } تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ) .