قوله تعالى : { وقال لفتيانه } ، قرأ حمزة والكسائي وحفص : { لفتيانه } بالألف والنون ، وقرأ الباقون : { لفتيته } بالتاء من غير ألف ، يريد لغلمانه ، وهما لغتان مثل الصبيان والصبية ، { اجعلوا بضاعتهم } ثمن طعامهم وكانت دراهم . وقال الضحاك عن ابن عباس : كانت النعال والأدم . وقيل : كانت ثمانية جرب من سويق المقل . والأول أصح . { في رحالهم } ، أوعيتهم ، وهي جمع رحل ، { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا } ، انصرفوا ، { إلى أهلهم لعلهم يرجعون } . واختلفوا في السبب الذي فعله يوسف من أجله ، قيل : أراد أن يريهم كرمه في رد البضاعة وتقديم الضمان في البر والإحسان ، ليكون أدعى لهم إلى العود ، لعلهم يعرفونها ، أي : كرامتهم علينا . وقيل : رأى لؤما أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه ، فرده عليهم من حيث لا يعلمون تكرما . وقال الكلبي : تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى . وقيل : فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها .
{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي : الثمن الذي اشتروا به من الميرة . { فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي : بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لأجل التحرج من أخذها على ما قيل ، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا ، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها ، ولا يشعرون لما يأتي ، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن .
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي : غلمانه { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } وهي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها { فِي رِحَالِهِمْ } أي : في أمتعتهم من حيث لا يشعرون ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } بها .
قيل : خشي يوسف ، عليه السلام ، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها . وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام . وقيل : أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم{[2]} والله أعلم .
وقوله : { وَقال لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ } يقول تعالى ذكره : وقال يوسف لِفتيانه ، وهم غلمانه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَقالَ لِفِتيْانِهِ } أي لغلمانه : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالَهُمْ } يقول : اجعلوا أثمان الطعام الذي أخذتموها منهم في رحالهم .
والرحال : جمع رحل ، وذلك جمع الكثير ، فأما القليل من الجمع منه فهو أرحُل ، وذلك جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وبنحو الذي قلنا في معنى البضاعة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ : أي أوراقهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم أمر ببضاعتهم التي أعطاهم بها ما أعطاهم من الطعام ، فجعلت في رحالهم وهم لا يعلمون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : وقال لفتيته وهو يكيل لهم : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون إليّ .
فإن قال قائل : ولأية علة أمر يوسف فتيانه أن يجعلوا بضاعة إخوته في رحالهم ؟ قيل : يحتمل ذلك أوجها : أحدها : أن يكون خشي أن لا يكون عند أبيه دراهم ، إذ كانت السّنة سنَة جدب وقحط ، فيضرّ أخذ ذلك منهم به ، وأحبّ أن يرجع إليه . أو أراد أن يتسع بها أبوه وإخوته مع حاجتهم إليه ، فردّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب ردّه تكرّما وتفضلاً ، والثالث : وهو أن يكون أراد بذلك أن لا يخلفوه الوعد في الرجوع ، إذا وجدوا في رحالهم ثمن طعام قد قبضوه وملكه عليهم غيرهم عِوَضا من طعامهم ، ويتحرّجوا من إمساكهم ثمن طعام قد قبضوه حتى يؤدّوه على صاحبه ، فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه .
{ وقال لفتيانه } لغلمانه الكيالين جمع فتى . وقرأ حمزة والكسائي وحفص " لفتيانه " على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } فإنه وكل بكل رحل واحدا يعني فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام ، وكانت نعالا وأدماً وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضلا عليهم وترفعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به . { لعلهم يعرفونها } لعلهم يعرفون حق ردها . أو لكي يعرفوها . { إذا انقلبوا } انصرفوا ورجعوا . { إلى أهلهم } وفتحوا أوعيتهم . { لعلهم يرجعون } لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «لفتيته » وقرأ حمزة والكسائي : «لفتيانه » ، واختلف عن عاصم ، ففتيان للكثرة - على مراعاة المأمورين - وفتية للقلة - على مراعاة المتناولين وهم الخدمة{[6741]} - ويكون هذا الوصف للحر والعبد . وفي مصحف ابن مسعود : «وقال لفتيانه » وهو يكايلهم .
وقوله { لعلهم يعرفونها } يريد : لعلهم يعرفون لها يداً ، أو تكرمة يرون حقها ، فيرغبون فينا ، فلعلهم يرجعون حينئذ وأما مير البضاعة فلا يقال فيه : لعل ، وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن ، وهذا ضعيف من وجوه ، وسرورهم بالبضاعة وقولهم : { هذه بضاعتنا ردت إلينا } [ يوسف : 65 ] يكشف أن يوسف لم يقصد هذا وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم ، فيرغبهم في نفسه كالذي كان ؛ وخص البضاعة بعينها - دون أن يعطيهم غيرها من الأموال - لأنها أوقع في نفوسهم ، إذ يعرفون حلها ، وماله هو إنما كان عندهم مالاً مجهول الحال ، غايته أن يستجاز على نحو استجازتهم قبول الميرة ؛ ويظهر أن ما فعل يوسف من صلتهم ، وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه ، إذ هو ملك عدل وهم أهل إيمان ونبوة ؛ وقيل : علم عدم البضاعة والدراهم عند أبيه ، فرد البضاعة إليهم لئلا يمنعهم العدم من الانصراف إليه ؛ وقيل : جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستئلاف وصلة الرحم .