قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً } . أولاداً صغاراً .
قوله تعالى : { خافوا عليهم } . الفقر ، هذا في الرجل يحضره الموت ، فيقول من بحضرته : انظر لنفسك فإن أولادك ورثتك لا يغنون عنك شيئاً ، قدم لنفسك : أعتق ، وتصدق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا ، حتى يأتي على عامة ماله ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ، ولا يجحف بورثته كما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من بحضرته على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالةً مع ضعفهم وعجزهم . وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليأت في حقه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده .
قوله تعالى : { فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً } . أي : عدلاً ، والسديد : العدل والصواب من القول . وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لورثته .
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }
قيل : إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته ، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها ، بدليل قوله : { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي : سدادا ، موافقا للقسط والمعروف . وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم .
وقيل : إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في ولايتهم لغيرهم ، أي : يعاملونهم بما فيه تقوى الله ، من عدم إهانتهم والقيام عليهم ، وإلزامهم لتقوى الله .
وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة ، يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى . . يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين : أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب . والثانية تمس مكان الرهبة من النار ، والخوف من السعير ، في مشهد حسي مفزع :
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ، وسيصلون سعيرا ) . .
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب . قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار . بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح ، لا راحم لهم ولا عاصم . كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم ، بعد أن فقدوا الآباء . فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غدا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء ، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء . . مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار ، لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان . وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولا سديدا ، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم . .
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم ، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم ، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع ، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه ، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديد للمخالف بحال أولاده . { فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب ، أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع حق الورثة ، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة ، أو لحاضري القسمة عذرا جميلا ووعدا حسنا ، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة .
وقوله { وليخش } جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياساً على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ . . . إذا مَا خِفْتَ مِنْ أمْرٍ تَبَالاً{[3861]}
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ { ذرية } في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى . والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضُعفاء » بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضُعُفاُ » بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة { ضعافاً } وأمال - { خافوا } ، والداعي إلى إمالة { خافوا } الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ليدل عليها و { خافوا } جواب { لو } تقديره : لو تركوا لخافوا ويجوز حذف اللام في جواب - لو - تقول - لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف مَن المراد بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتاً حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضاً : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال{[3862]} : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر{[3863]} ، ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية ، «والسديد » معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :
أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني{[3864]}
موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين الذين اعتدوا هم على أموالهم وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله ( ضعافا ) ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا . فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول ( يخش ) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته .
وجملة ( لو تركوا ) إلى ( خافوا عليهم ) صلة الموصول وجملة ( خافوا عليهم ) جواب ( لو ) .
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له إذ هي أمر يتصوره كل الناس .
ووجه اختيار ( لو ) هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه : فالذين بلغوا اليأس من الولادة ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر .
وفعل ( تركوا ) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول كقوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ) وقوله تعالى ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) وقول الشاعر :
إلى ملك كاد الجبال لفقده *** تزول زوال الراسيات من الصخر
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت . فالمعنى : لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء .
والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ويحرمون صغار اخوتهم أو أبناء اخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم كل أولئك داخل في الأمر بالخشية والتخويف بالموعظة ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله ( فارزقوهم منه ) لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف .
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء اليهم لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ويكسب النفوس ضراوة على عمله . وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى ( ذرية بعضها من بعض ) في سورة آل عمران .
وقوله ( فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا}، فهو الرجل يحضر الميت، فيقول له: قدم لنفسك، أوص لفلان وفلان، حتى يوصي بعامة ماله، فيزيد على الثلث، فنهى الله عز وجل عن ذلك، فقال: وليخش الذين يأمرون الميت بالوصية بأكثر من الثلث، فليخش على ورثة الميت الفاقة والضيعة، كما يخشى على ذريته الضعيفة من بعده، فكذلك لا يأمر الميت بما يؤثمه، فذلك قوله سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا}: عجزة، لا حيلة لهم، نظيرها في البقرة، {خافوا عليهم} الضيعة، {فليتقوا الله وليقولوا} إذا جلسوا إلى الميت {قولا سديدا}: عدلا، فليأمره بالعدل في الوصية، فلا يحرفها، ولا يجر فيها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: {ولْيَخْشَ}: ليخف الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية به فيمن لا يرثه، ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده، كما لو كان هو الموصي، يسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي، الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم، أن ينهوه عن الوصية لأقربائه، وأن يأمروه بإمساك ماله والتحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي لسرّهم أن يوصي لهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أمر من الله ولاة اليتامى أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدا، يكفيهم الله أمر ذرّيتهم بعدهم. وأولى التأويلات بالآية قول من قال: تأويل ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرّقوا أمولهم في حياتهم، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليتم والمسكنة، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم بعدهم مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب، فليأمروا من حضروه، وهو يوصي لذوي قرابته وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك بماله بالعدل، وليتقوا الله، وليقولوا قولاً سديدا، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية وما اختاره المؤمنون من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته.
وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات لما قد ذكرنا فيما مضى قبل، من أن معنى قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينْ فارْزُقوهُمْ منه وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا} وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم، بما قد دللنا عليه من الأدلة. فإذا كان ذلك تأويل قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَساكِينُ}... الآية، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره: {وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} تأديبا منه عباده في أمر الوصية بما أذنهم فيه، إذ كان ذلك عقيب الآية التي قبلها في حكم الوصية، وكان أظهر معانيه ما قلنا، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى مع اشتباه معانيهما من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه.
والسديد من الكلام: هو العدل والصواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّن في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدخره لعياله: التقوى والصلاح لا المال؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: {فَلْيَتَّقُوا اللهَ} فإنه يتولى الصالحين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمراد بهم: الأوصياء، أمِروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً وشفقتهم عليهم وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى: وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئاً، فقدم مالك، فيستغرقه بالوصايا، فأمروا بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين. هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟
فإن قلت: ما معنى وقوع {لَوْ تَرَكُواْ} وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم.
والقول السديد من الأوصياء: أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بنيّ ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:"إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وأن الخمس أفضل من الربع، والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(وليخش): أمر من الخشية وهي كما في المعاجم الخوف وقال الراغب: هي خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28].
...فإن كان بين الخوف والخشية فرق فالأقرب عندي أن تكون الخشية هي الخوف في محل الأمل. ومن دقق النظر في الآيات التي ورد فيها حرف الخشية يجد هذا المعنى فيها، ولعل أصل الخشية من مادة خشت النخلة تخشو، إذا جاء ثمرها دقلا (رديئا) وهي مما يرجى منها الجيد. ولم يرد في الآية ذكر مفعول "ليخش "فالظاهر أن المراد منه الأمر بالتلبس بالخشية كقوله: (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى) [عبس: 8-9] أو حذف المفعول لتذهب النفس في تصوره إلى كل ما يخشى في ذلك، وقال الراغب أي ليستشعروا خوفا من معرته، وقال الأستاذ الإمام: ليخشوا الله. (قولا سديدا) قال المفسرون السديد هو العدل والصواب. وهو لا يكون من المتدين إلا موافقا لحكم الشرع...
في الآية وجهان، أحدهما: إن المطالبين بالقول السديد في هذه الآية هم المطالبون بالقول المعروف في الآية التي قبلها فتكون هذه الآية معللة للأمر بالقول المعروف في تلك متصلة بها مباشرة، ذلك أنه يجوز أن ينهى بعض حاضري القسمة عن رزق اليتامى والمساكين الذين يحضرونها وهذا يكثر في الناس لا سيما إذا كان الورثة من الأغنياء الوجهاء فإن الناس يتحببون إليهم بما يوهم الغيرة على أموالهم. فإن الله تعالى يذكر هؤلاء الذين يحولون دون عمل البر بأن يخافوا الله أن يتركوا بعد موتهم ورثة ضعفاء يحتاجون ما يحتاجوا حاضروا القسمة وطالبوا البر من اليتامى والمساكين فيعاملوا بالحرمان والقسوة- فهو يرشدهم إلى معاملة هؤلاء الضعفاء مثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم إذا تركوهم ضعافا.
والوجه الثاني: إن الخطاب للأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى فهو بعد الوصية بحفظ أموالهم وحسن تربيتهم بابتلائهم واختبارهم بالعمل ليعرف رشدهم أمرهم بإحسان القول لهم أيضا فإن اليتيم يجرحه أقل قول يهين لا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء. وقد جرت العادة بتساهل الناس في مثل هذه الأقوال وإن كانوا عدولا حافظين للأموال محسنين في المعاملة، فقلما يوجد يتيم في بيت إلا ويمتهن ويقهر بالسوء من القول وذكر والديه بما يشينهما ولذلك ورد التأكيد بالوصية باليتامى في الكتاب والسنة...
وحاصل معنى الآية: ليكن من أهل الخشية- أو ليخش العاقبة، أو الله- الذين لو تركوا بعدهم ذرية ضعافا خافوا أن يسيء الناس معاملتهم ويهينوهم فلا يقولوا ما يترتب عليه ضرر بذرية أحد بل ليقولوا قولا محكما يسد منافذ الضرر فكما يدين المرء يدان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة، يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى.. يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين: أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب. والثانية تمس مكان الرهبة من النار، والخوف من السعير، في مشهد حسي مفزع:
(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم. فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا. إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا)..
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب. قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار. بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح، لا راحم لهم ولا عاصم. كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم، بعد أن فقدوا الآباء. فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غدا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء.. مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار، لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان. وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولا سديدا، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين الذين اعتدوا هم على أموالهم وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله (ضعافا) ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا. فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول (يخش) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته.
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له إذ هي أمر يتصوره كل الناس.
ووجه اختيار (لو) هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه: فالذين بلغوا اليأس من الولادة ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر.
وفعل (تركوا) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول كقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم) وقوله تعالى (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم)...
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت. فالمعنى: لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء.
والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة: من الأوصياء ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ويحرمون صغار اخوتهم أو أبناء اخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم كل أولئك داخل في الأمر بالخشية والتخويف بالموعظة ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله (فارزقوهم منه) لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف.
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء اليهم لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ويكسب النفوس ضراوة على عمله. وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى (ذرية بعضها من بعض) في سورة آل عمران.
وقوله (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين: لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه والمعنى: فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
واضح أن هذا النص وارد في اليتامى، ويحتمل أن يكون المراد الحث على إعطاء اليتامى غير الوارثين مقدارا يعين على إصلاحهم، ويكون تخصيصهم بالذكر للحث على إكرام اليتيم، وذلك سنن القرآن الكريم دائما، ويحتمل وهو الراجح أن يكون الكلام في شأن نصيب اليتامى في التركات، ويكون المخاطبون غير المخاطبين فيما مضى أو هم، ولكن لعمل آخر وهو المحافظة على حق اليتيم في الميراث فلا يضيع، وقد حث سبحانه على المحافظة على حق اليتيم بأبلغ تعبير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يشير القرآن الكريم بهدف إِثارة مشاعر العطف والإِشفاق لدى الناس بالنسبة إِلى اليتامى إِلى حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً، وتلك الحقيقة هي: إِن على الإِنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.
تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم.
أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتماً، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم، واحزنوا لما يحزنهم.
وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم) هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إِيذائهم.
وأساساً: إِنّ القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن من اليوم إِلى الغد، ومن الغد إِلى المستقبل البعيد، فالذين يُروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إِيذاء اليتامى فإِن ذلك سيكون سبباً لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضاً، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد آذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضاً.
لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإِلهية، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقاً للشرع والحق، قولا ممزوجاً بالعواطف الإِنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أُولئك من الجراح، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإِلى هذا يشير قوله سبحانه: (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً).
إنّ هذا التعليم الإِسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إِشارة إِلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى جديرة بالاهتمام والرعاية، وهي: إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم، وهو ذو تأثير كبير جدّاً في بناء مستقبلهم، لأن الطفل اليتيم إِنسان كغيره، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأُمّه. أنه ليس «حَمَل» يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح، ويعود عند الغروب، بل هو إِنسان يجب مضافاً إِلى الرعاية الجسدية أن يحظى بالرعاية الروحية، والعناية العاطفية، وإِلاّ نشأ قاسياً مهزوماً، عديم الشخصية، بل وحاقداً خطيراً...
إِنّ ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئاً فشيئاً، وينتقل إِلى الأجيال اللاحقة، وعلى هذا الأساس فإِن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوماً ما أيضاً، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل...
وخلاصة القول: إذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضاً.