قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر ، والفعل بعدها مجزومٌ بها ، وقرأ الحَسَنُ{[6716]} وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل ، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل ، فإنهم شَبَّهوا " وليخش " ب " كَيف " {[6717]} وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو : " وهْيَ " و " لَهْي " في أول البقرة .
قال القرطبي : حذفت الأولف من { وَلْيَخْشَ } للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر ، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم .
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ *** إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ{[6718]}
أراد لتفد{[6719]} وهو مفعل " يخشى " محذوف لدلالة الكلام عليه ، و " لو " هذه فيها احتمالان :
أحدهما : أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين .
والثَّانِي : أنَّهَا بمعنى " إن " الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري .
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة ل " الذين " قلت : معناه : وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهُمْ لو شارفوا{[6720]} أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً ، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : [ الوافر ]
لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً *** بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي *** وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي{[6721]}
وقال ابن عطية{[6722]} تقديره : لو تركوا لخَافُوا ، ويجوزُ حذف اللام من جواب " لو " ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها ، ولو كانت " لَوْ " بمعنى " إن " الشَّرطيّة لما جاز ذلك ، وقد صَرَّح غيرهما بذلك فقال : { لَوْ تَرَكُواْ } " لَوْ " يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره ، و " خَافُوا " جوابُ " لَوْ " .
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ{[6723]} وابنُ مَالِكٍ ، قال ابْنُ مَالِكٍ : " لو " هنا شرطية بمعنى " إنْ " فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتَّقدير : وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد " لو " هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ " إنْ " وأنشد : [ الكامل ]
لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً *** خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا{[6724]}
أي : وإنْ تكن عديماً ، ومثلُ هذا البيت قول الآخر : [ البسيط ]
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ *** دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ{[6725]}
والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي ، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك ، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى " إنْ " توهُّمُ أنَّه لَمَّا أمر بالخشيةِ - والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم{[6726]} الذي ينافي{[6727]} امتثالَ الأمر ، وحَسَّنَ مكانَ " لو " لفظ " إنْ " ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري " لَوْ " على فعل مستقبل ، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال : " وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا " .
قال أبُو حَيَّان : " وهو الَّذي تَوهَّموه لا يلزم ، إلاَّ إن كانت الصِّلةُ{[6728]} ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل ، إذا معنى { لو تركوا من خلفهم } أي : ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في " لَوْ " أن تكون بمعنى " إنْ " إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل ، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل{[6729]} نحو قولك : ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه " . انتهى .
وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى " إنْ " أنْ تكن في الآية كذلك ؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك ، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب " لو " محذوف مدلولٌ عليه بقوله : " لا يلفك " وهو نَهْيٌ ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك{[6730]} كانت " لَوْ " تعليقاً في المستقبل .
وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ " إذا " ، و " إذا " للمستقبل . ومفعول { وَلْيَخْشَ } محذوفٌ أي : وليخش اللَّه .
ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ { وَلْيَخْشَ } يطلبُ الجلالة ، وكذلك { فَلْيَتَّقُواّ } فيكون من إعمال{[6731]} الثَّاني للحذف من الأوَّلِ .
قوله : { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متعلِّقٌ ب " تَرَكُوا " ظرفاً له .
والثَّاني : أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حالٌ من " ذرية " ؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً .
قوله : { ضِعَافاً } ، أمال{[6732]} حمزة : ألف { ضِعَافاً } ولم يبال بحرف الاستعلاء{[6733]} لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِرِ{[6734]} الإمالةَ .
وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ{[6735]} " ضُعُفاً " بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء ، والسُّلمي{[6736]} وعائشة " ضعفاء " بضم الضاد وفتح العين والمد ، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو : ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء ، وقرئ{[6737]} " ضَعافَى " بالفتح والإمالة نحو : سَكَارى ، وظاهر عبارةِ الزَّمخشري{[6738]} أنَّهُ قُرِئَ " ضُعافى " بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال : " وقُرِئَ ضُعَفَاء ، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى " ، فيحتمل أنْ يريد أنَّهُ قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها ، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ{[6739]} " ضَعافى " بفتح الضَّاد دونَ إمَالَةٍ ، و " ضَعافَى " بفتحها مع الإمالة [ كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة ، وسكارى بفتحها مع الإمالة ]{[6740]} ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة .
قوله : { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } . أمَالَ حمزةُ ألف " خَافُوا " للكسرة المقدَّرَةِ في الألف ، إذ الأصل " خَوِفَ " بكسر العين ؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو : " يَخَافُ " {[6741]} .
وعلَّل أبو البَقَاءِ{[6742]} وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال{[6743]} من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم ، أو إحدى أخواته نحو : خِفْت وخِفْنَا ، والجملةُ من " لَوْ " وجوابها صلةُ " الَّذينَ " .
اختلفوا في المعنيِّ على أقْوَالٍ :
أحدها : أنَّهَا في الرَّجُلِ يحضره الموت فيقول مَنْ في حضرته : انظر لنفسك فَإنَّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من اللَّهِ شيئاً . قَدِّم لنفسك ، أعْتِقْ ، وتصدَّقْ ، وأعْطِ فلاناً كَذَا ، وفلاناً كذا ، حتَّى يأتي على عامَّة ماله ، فنهاهم اللَّهُ تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيَّتِهِ على الثُّلُثِ فيكون خطاباً للحاضرين عند الميت . فقيل لهم : كما أنَّكم تكرهون بقاء أولادكم في الضَّعف ، والجوع فَاخْشَوا اللَّهَ ، ولا تحملوا المريض على أنْ يحرم أولاده الضُّعفاء ماله ، ومعناه كما أنَّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا تَرْضَاهُ لأخيك المسلم .
وثانيها : أنَّهُ خِطَابٌ للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيَّة للأجانب ، فيقول له من يحضره : اتَّق اللَّه وأمسك مالك على ولدك مع أنَّ القَائِلَ لَهُ يجب أنْ يُوصِيَ لَهُ .
وثالثها : أنَّهُ خِطَابٌ لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيَّة ، لئلا تضيع ورثته بعد مَوْتِهِ ، فَإنْ كانت هذه الآية نزلت قبل تَقْدِيرِ الوصيَّة بالثُّلُثِ ، كان المرادُ بها ألا يستغرق التركةَ بالوصيَّةِ ، وَإنْ كانت نزلت بعد تقدير الوصيَّة بالثُّلُثِ كان المرادُ منها ألا يوصي أيضاً بالثُّلُث بل ينقص إذا خاف على ذُرّيّته ، وهذا مَرْويٌّ عن كثير من الصَّحَابَة{[6744]} .
رابعها : أنَّ هذا خطابٌ لأولياء اليتيم ، قال الْكَلْبِيُّ{[6745]} : كَأَنَّهُ يقولُ مَنْ كان في حِجْرِهِ فليحسن إليْه بما يجب أن يُفْعَلَ بذريته من بعده .
قال القاضي{[6746]} : وهذا أليقُ بما تَقَدَّمَ وتأخَّرَ من الآيات الواردة في الأيْتَام .
قوله : { فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } .
أي فليتقوا اللَّه في الأمر الذي تقدم ذكره ، والاحتياط فيه ، وليقولوا قولاً سديداً ، والقولُ السديدُ هو العدل والصّواب من القول .
قال الزمخشريُّ : القولُ السَّديدُ من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما{[6747]} يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبوهم : يا بني ، ويا ولدي ، والقول السّديد من الجالسين إلى{[6748]} المريض أن يقولوا : لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [ مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ ]{[6749]} والقول السَّديد من الوَرَثَة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام .