مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا} (9)

قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : الجملة الشرطية وهو قوله : { لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } هي صلة لقوله : { الذين } والمعنى : وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه ، وسنذكر وجوه المفسرين فيه .

المسألة الثانية : لا شك أن قوله : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } يوجب الاحتياط للذرية الضعاف ، وللمفسرين فيه وجوه : الأول : أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون : أن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان ، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا ، فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله . وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم . عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » .

والقول الثاني : قال حبيب بن أبي ثابت : سألت مقسما عن هذه الآية فقال : هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب ، فيقول له من كان عنده : اتق الله وأمسك على ولدك مالك ، مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له ، ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية ، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية ، والأول أولى ، لأن قوله : { لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } أشبه بالوجه الأول وأقرب إليه .

والقول الثالث : يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث ، بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك ، وكانوا يقولون : الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث ، وخبر سعد يدل عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » .

والقول الرابع : أن هذا أمر لأولياء اليتيم ، فكأنه تعالى قال : وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره ، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله ، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا . قال القاضي : وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » : قرئ ضعفاء ، وضعافي ، وضعافي : نحو سكارى وسكارى . قال الواحدي : قرأ حمزة { ضعافا خافوا عليهم } بالأمالة فيهما ثم قال : ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال ، وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا نحو ضعاف ، وغلاب ، وخباب ، يحسن فيه الإمالة ، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة ، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة ، وأما الأمالة في { خافوا } فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ، ثم قال : { فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } وهو كالتقرير لما تقدم ، فكأنه قال : فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه ، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل ، والقول السديد هو العدل والصواب من القول . قال صاحب «الكشاف » : القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني ، يا ولدي ، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا : إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون ، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالإكرام .