قوله تعالى : { قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي } يعني : الكتاب والرسول ، { فلا يضل ولا يشقى } ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة ، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك بأن الله يقول : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " . وقال الشعبي عن ابن عباس : أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة ، وقرأ هذه الآية .
{ 123 - 127 } { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }
يخبر تعالى ، أنه أمر آدم وإبليس أن يهبطا إلى الأرض ، وأن يتخذوا [ آدم وبنوه ]{[523]} الشيطان عدوا لهم ، فيأخذوا الحذر منه ، ويعدوا له عدته ويحاربوه ، وأنه سينزل عليهم كتبا ، ويرسل إليهم رسلا يبينون لهم الطريق المستقيم الموصلة إليه وإلى جنته ، ويحذرونهم من هذا العدو المبين ، وأنهم أي : وقت جاءهم ذلك الهدى ، الذي هو الكتب والرسل ، فإن من اتبعه اتبع ما أمر به ، واجتنب ما نهي عنه ، فإنه لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يشقى فيهما ، بل قد هدي إلى صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة ، وله السعادة والأمن في الآخرة .
وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى ، بقوله : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } واتباع الهدى ، بتصديق الخبر ، وعدم معارضته بالشبه ، وامتثال الأمر بأن لا يعارضه بشهوة .
ثم صدر الأمر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى :
( قال : اهبطا منها جميعا ، بعضكم لبعض عدو ) . .
وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين . فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري . فقد درى وعلم ؛ وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله : ( بعضكم لبعض عدو ) !
ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون ، وشهده الملائكة أجمعون . شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى . قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم . فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس ، أنه آتيهم بهدى منه ، فمجاز كلا منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى :
( فإما يأتينكم مني هدى ، فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى . قال : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ? قال : : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) . .
يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها ، فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى . فذلك أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل .
( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) . . فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله . وهما ينتظران خارج عتبات الجنة . ولكن الله يقى منهما من اتبع هداه . والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع . فهذا المتاع ذاته شقوة . شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة . وما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه . وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه . والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع ! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء . ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض ، وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود ، حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود .
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعًا ، أي : من الجنة كلكم . وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة " .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته .
وقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان .
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .
{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }
استئناف بياني ، لأنّ الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالاً عن جزاء ذلك . وضمير قالقَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } عائد إلى { ربه } [ طه : 121 ] من قوله { وعصى آدم ربه } والخطاب لآدم وإبليس .
والأمر في { اهبطا } أمر تكوين ، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض إلاّ بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى .
و { جميعاً } يظهر أنه اسم لمعنى كل أفرادِ ما يوصف بجميع ، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل : فريق ، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره ، قال تعالى : { فكيدوني جميعاً } [ هود : 55 ] ونصبه على الحال ، وهو هنا حال من ضمير { اهبطا .
وجملة بعضكم لبعض عدوٌّ } حال ثانية من ضمير { اهْبِطَا } . فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها .
والخطاب في قوله { بَعْضُكُم } خطاب لآدم وإبليس . وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما ، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان .
{ فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى }
تفريع جملة فإمَّا يأتينَّكم مني هُدىً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتنى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كذلك أَتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بھايات رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ وأبقى } على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباءٌ بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنّهم أُودِعوا في عالَم خليط خيره بشرّه ، وحقائقه بأوهامه ، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص ، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان مُعَدّاً له من أصل تركيبه .
والخطاب في قوله { يَأتِيَنَّكُم } لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعاراً له بأنه سيكون منه جماعة ، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم ، فلا يكلفه الله باتباع الهدى ، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثاً ينزه عنه فعل الحكيم تعالى . وليس هذا مثلَ أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقَن بأنهم لا يؤمنون ، ولم يرد في السنّة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين ، وأما الحديث الذي رواه الدارَقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجنّ ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي ولكن الله أعانني فأسْلَمَ » فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير ، والمراد بالقرين : شيطان قرين ، والمراد بالهدى : الإرشاد إلى الخير .
وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي ، وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشريّة حتى قال كثير من علماء الإسلام : إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور . وإنه لذلك لم يُعذر أهل الشرك في مُدد الفِتر التي لم تجىء فيها رسل للأمم . وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام ، وحررناها في « رسالة النسب النبوي » .
وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأوليْن في سورة البقرة .
وأما قوله { فلا يضل } فمعناه : أنه إذا اتبع الهُدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن يعتريه شيء من ضلال ، وهذا مأخوذ من دلالة الفِعل في حيّز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي ، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا ، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحْوال أخرى . وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غَفلات ، أو تعارض أدلة ، أو انفعال بعادات مستقرة ، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلبَ مرضاتهم . وهذا سقراط وهو سيّد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان ، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد ربّ الحكمة . وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علاّم الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى ، وأيدهم الله ، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء ، وكوّنهم تكويناً خاصاً مناسباً لما سبق في علمه من مراده منهم ، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء ، ولا يخافون في الله لومة لائم . وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات .
والشقاء المنفي في قوله { ولا يشقى } هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة .