{ 21 - 22 } { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }
أي : ومن نعمه عليكم ، أن سخر لكم الأنعام ، الإبل والبقر ، والغنم ، فيها عبرة للمعتبرين ، ومنافع للمنتفعين { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا } من لبن ، يخرج من بين فرث ودم ، خالص سائغ للشاربين ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أفضل المآكل من لحم وشحم .
ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان :
( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ، ولكم فيها منافع كثيرة ، ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ) . .
فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره ، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير . . فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير ؛ ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير ؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها ؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله ؛ فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف .
( ولكم فيها منافع كثيرة ) . . يجملها أولا ، ثم يخصص منها منفعتين : ( ومنها تأكلون . وعليها وعلى الفلك تحملون ) . . وقد أحل للإنسان أكل الأنعام ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها ، لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة . فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب ، وفساد الفطرة . وليس وراءهما فائدة للأحياء .
وقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع ، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم ، ويأكلون من حملانها ، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها ويحملونها{[20532]} الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 7 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ . وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ . وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس : 71 - 73 ] .
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } تعتبرون بحالها وتستدلون بها . { نسقيكم مما في بطونها } من الألبان أو من العلف ، فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للابتداء ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب { نسقيكم } بفتح النون . { ولكم فيها منافع كثيرة } في ظهورها وأصوافها وشعورها . { ومنها تأكلون } فتنتفعون بأعيانها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن لكم في الأنعام} يعني: الإبل والبقر والغنم {لعبرة نسقيكم مما في بطونها} يعني: اللبن {ولكم فيها منافع كثيرة} يعني: في ظهورها وألبانها وأوبارها وأصوافها وأشعارها {ومنها تأكلون}، يعني: من النعم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَإنّ لَكُمْ" أيها الناس "فِي الأَنْعامِ لَعْبرَةً "تعتبرون بها، فتعرفون بها أياديَ الله عندكم وقدرته على ما يشاء، وأنه الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يُعْجِزه شيء شاءه.
"نُسْقيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِها" من اللبن الخارج من بين الفرث والدم.
"وَلَكُمْ" مع ذلك فِيها يعني في الأنعام، "مَنافِعُ كَثِيرَةٌ" وذلك كالإبل التي يحمل عليها ويُركب ظهرها ويُشرب دَرّها.
"وَمِنْها تأْكُلونَ" يعني من لحومها تأكلون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن لكم في الأنعام لعبرة} وجه العبرة فيها من وجهين:
أحدهما: ما قال ابن عباس، وهو ما ذكر عز وجل {من بين فرث ودم} الآية (النحل: 66) ففي ذلك عبرة ودلالة على وحدانيته وربوبيته وعلمه وقدرته وتدبيره ولطفه، إذ ليس شيء منها إلا وفيه دلالة وحدانيته وربوبيته ودلالة علمه وقدرته وتدبيره.
والثاني: فيه أنه لم ينشئ هذه الأنعام لأنفسها، ولكن أنشأها للبشر حين أخبر أنه سخرها لنا ليمتحنهم بها.
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملا ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه. أحدها: قوله: {نسقيكم مما في بطونها} والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته. كان ذلك معدودا في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا، وأيضا فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شرابا طيبا، وإذا ذبحتها لم تجد لها أثرا، وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل سبحانه وتعالى على قدرته بما أحيا بالماء حياة قاصرة عن الروح، أتبعه ما أفاض عليه به حياة كاملة فقال: {وإن لكم في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} تعبرون بها من ظاهر أمرها إلى باطنه مما له سبحانه فيها من القدرة التامة على البعث وغيره؛ ثم استأنف تفصيل ما فيها من العبرة قائلاً: {نسقيكم} ولما كان الأنعام مفرداً لكونه اسم جمع، ولم يذكر ما يسقى منه، أنث الضمير بحسب المعنى وعلم أن المراد ما يكون منه اللبن خاصة وهو الإناث، فهو استخدام لأنه لو أريد جميع ما يقع عليه الاسم لذكر الضمير، فلذلك قال: {مما في بطونها} أي نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به مع خروجه من بين الفرث والدم كما مضى في النحل {ولكم فيها} أي في جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأن غيرها عدم {منافع كثيرة} باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها، وبأولادها وأصوافها وأوبارها، وغير ذلك من آثارها.
ولما كان التقدير: تصرفونها في تلك المنافع، عطف عليه مقدماً للجار تعظيماً لمأكولها فقال: {ومنها تأكلون} بسهولة من غير امتناع ما عن شيء من ذلك، ولو شاء لمنعها من ذلك وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج، أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها له.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان:
(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون)..
فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير.. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير؛ ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله؛ فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف.
(ولكم فيها منافع كثيرة).. يجملها أولا، ثم يخصص منها منفعتين: (ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون).. وقد أحل للإنسان أكل الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها، لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة. فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب، وفساد الفطرة. وليس وراءهما فائدة للأحياء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعبْرة: الدليل لأنه يُعبر من مَعرفته إلى معرفة أخرى. والمعنى: إن في الأنعام دليلاً على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم. والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.
وجملة {نسقيكم مما في بطونها} بيان لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.
والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه {نسقيكم}. وأما {نسقيكم} بمجردة فهو منة. وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلاً في سورة النحل (66).
وجملة {ولكم فيها منافع كثيرة} وما بعدها معطوفة على جملة {نسقيكم مما في بطونها} فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجُمل بعده. وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنَّتاج.
وأما الأكل منها فهو عبرة أيضاً إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شَيِّهَا وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) إضافة إلى اللحم الذي يعتبر من أجزاء الغذاء الرئيسيّة التي يحتاجها الجسم، يستفاد من جلود الحيوان في صنع اللباس والخيم القويّة ذات العمر الطويل. كما يستفاد من صوفها في صنع الملابس والفرش والأغطية. ويصنع من أجزاء بدنها الدواء، ويستفاد حتّى من روثها لتسميد الأشجار والنباتات...