قوله تعالى : { لا يسمعون فيها } في الجنة { لغواً } ، باطلاً وفحشاً وفضولاً من الكلام . وقال مقاتل : هو اليمين الكاذبة { إلا سلاماً } ، استثناء من غير جنسه ، يعني : بل يسمعون فيها سلاماً . أي : قولاً يسلمون منه ، والسلام اسم جامع للخير ، لأنه يتضمن السلامة . معناه : إن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤثمهم ، إنما يسمعون ما يسلمهم . وقيل : هو تسليم بعضهم على بعض ، وتسليم الملائكة عليهم . وقيل : هو تسليم الله عليهم . { ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً } ، قال أهل التفسير : ليس في الجنة ليل يعرف به البكرة والعشي ، بل هم في نور أبداً ، ولكنهم يأتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار . وقيل : إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب . وقيل : المراد منه رفاهية العيش ، وسعة الرزق من غير تضييق . وكان الحسن البصري يقول : كانت العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي ، فوصف الله عز وجل جنته بذلك .
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي : كلاما لاغيا لا فائدة فيه ، ولا ما يؤثم ، فلا يسمعون فيها شتما ، ولا عيبا ، ولا قولا فيه معصية لله ، أو قولا مكدرا ، { إِلَّا سَلَامًا } أي : إلا الأقوال السالمة من كل عيب ، من ذكر لله ، وتحية ، وكلام سرور ، وبشارة ، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان ، وسماع خطاب الرحمن ، والأصوات الشجية ، من الحور والملائكة والولدان ، والنغمات المطربة ، والألفاظ الرخيمة ، لأن الدار ، دار السلام ، فليس فيها إلا السلام التام في جميع الوجوه . { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي : أرزاقهم من المآكل والمشارب ، وأنواع اللذات ، مستمرة حيثما طلبوا ، وفي أي : وقت رغبوا ، ومن تمامها ولذاتها وحسنها ، أن تكون في أوقات معلومة . { بُكْرَةً وَعَشِيًّا } ليعظم وقعها ويتم نفعها .
ثم يرسم صورة للجنة ومن فيها . . ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) فلا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال ، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي . صوت السلام . . والرزق في هذه الجنة مكفول لا يحتاج إلى طلب ولا كد . ولا يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا )فما يليق الطلب ولا القلق في هذا الجو الراضي الناعم الأمين . .
وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي : هذه{[18972]} الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له ، كما قد يوجد في الدنيا .
وقوله : { إِلا سَلامًا } استثناء منقطع ، كقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ]{[18973]}
وقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي : في مثل وقت البُكُرات ووقت العَشيّات ، لا أن{[18974]} هناك ليلا أو نهارًا{[18975]} ولكنهم في أوقات تتعاقب ، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زُمْرَة تلج الجنة صُورهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصُقون فيها ، ولا يتمخطون{[18976]} فيها ، ولا يَتَغَوّطون ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم{[18977]} الألْوّة ، ورَشْحُهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مُخّ ساقيهما{[18978]} من وراء اللحم ؛ من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد ، يسبحون الله بكرة وعشيًّا " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به{[18979]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن{[18980]} ابن إسحاق ، حدثني الحارث بن{[18981]} فضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا " {[18982]} تفرد به أحمد من هذا الوجه .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال : مقادير الليل والنهار .
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهم ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد ، عن قول الله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبدًا ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وبفتح{[18983]} الأبواب .
وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم ، عن خُلَيْد ، عن الحسن البصري ، وذكر أبواب الجنة ، فقال : أبواب{[18984]} يُرى ظاهرها من باطنها ، فتكلم وتكلم ، فَتُهَمْهِم{[18985]} انفتحي انغلقي ، فتفعل .
وقال قتادة في قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } : فيها ساعتان : بكرة وعشي : ليس ثم{[18986]} ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور .
وقال مجاهد ليس [ فيها ]{[18987]} بكرة ولا عشي ، ولكن يُؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا .
وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : كانت العرب ، الأنْعَم فيهم ، من يتغدّى ويتعشى ، ونزل{[18988]} القرآن على ما في أنفسهم{[18989]} من النعيم ، فقال تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا }
وقال ابن مهدي ، عن حماد بن زيد ، عن هشام ، عن الحسن : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال : البكور يرد على العشي ، والعشي يرد على البكور ، ليس فيها ليل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سليم{[18990]} بن منصور بن عمار ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن زياد قاضي أهل شَمْشَاط{[18991]} عن عبد الله بن جرير{[18992]} عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من غداة من غدوات الجنة ، وكل الجنة غدوات ، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين ، أدناهن التي خلقت من الزعفران " {[18993]}
{ لا يسمعون فيها لغوا } فضول كلام . { إلا سلاما } ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض على الاستثناء المنقطع ، أو على أن معنى التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام . { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة ، وقيل المراد دوام الرزق ودروره .