{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
كرر الإهباط ، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } أي : أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى ، أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ، ويدنيكم مني ، ويدنيكم من رضائي ، { فمن تبع هداي } منكم ، بأن آمن برسلي وكتبي ، واهتدى بهم ، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب ، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي ، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
وفي الآية الأخرى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }
فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء :
نفي الخوف والحزن ، والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى ، أحدث الحزن ، وإن كان منتظرا ، أحدث الخوف ، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ، حصل ضدهما ، وهو الأمن التام ، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما ، وهو الهدى والسعادة ، فمن اتبع هداه ، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى ، وانتفى عنه كل مكروه ، من الخوف ، والحزن ، والضلال ، والشقاء ، فحصل له المرغوب ، واندفع عنه المرهوب ، وهذا عكس من لم يتبع هداه ، فكفر به ، وكذب بآياته .
ف { أولئك أصحاب النار } أي : الملازمون لها ، ملازمة الصاحب لصاحبه ، والغريم لغريمه ، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون .
وفي هذه الآيات وما أشبهها ، انقسام الخلق من الجن والإنس ، إلى أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك ، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب ، كما أنهم مثلهم ، في الأمر والنهي .
( قلنا : اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل ، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر . وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار ، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار . . .
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
أي : مخلدون فيها ، لا محيد لهم عنها ، ولا محيص .
وقد أورد ابن جرير ، رحمه الله ، هاهنا حديثا ساقه من طريقين ، عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد ،
عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة{[1622]} عن أبي سعيد - واسمه سعد بن مالك بن سِنَان الخُدْري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، لكن أقواماً أصابتهم النار بخطاياهم ، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في الشفاعة " . وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به{[1623]} .
[ وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول ، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير ، كما تقول : قم قم ، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض ، والصحيح الأول ، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه ]{[1624]} .
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } عطف على { فمن تبع } إلى آخره قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبع بل كفروا بالله ، وكذبوا بآياته ، أو كفروا بالآيات جنانا ، وكذبوا بها لسانا فيكون الفعلان متوجهين إلى الجار والمجرور . والآية في الأصل العلامة الظاهرة ، ويقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل ، واشتقاقها من آي لأنها تبين آيا من أي أو من أوى إليه ، وأصلها أأية أو أوية كتمرة ، فأبدلت عينها ألفا على غير قياس . أو أيية . أو أوية كرمكة فأعلت . أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا . والمراد { بآياتنا } الآيات المنزلة ، أو ما يعمها والمعقولة . وقد تمسكت الحشوية بهذه ال قصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجوه :
الأول : أن آدم صلوات الله عليه كان نبيا ، وارتكب المنهي عنه والمرتكب له عاص .
والثاني : أنه جعل بارتكابه من الظالمين والظالم ملعون لقوله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } .
والثالث : أنه تعالى أسند إليه العصيان ، فقال { وعصى آدم ربه فغوى } والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة ، وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه . والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله تعالى إياه بقوله : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } والخاسر من يكون ذا كبيرة .
والسادس : أنه لو لم يذنب لم يجر عليه ما جرى . والجواب من وجوه .
الأول : أنه لم يكن نبيا حينئذ ، والمدعي مطالب بالبيان .
والثاني : أن النهي للتنزيه ، وإنما سمي ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى له . وأما إسناد الغي والعصيان إليه فسيأتي الجواب عنه في موضعه إن شاء الله تعالى . وإنما أمر بالتوبة تلافيا لما فات عنه ، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى ، ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه .
والثالث : أنه فعله ناسيا لقوله سبحانه وتعالى : { فنسي ولم نجد له عزما } ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان ، ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم كما قال عليه الصلاة والسلام : " أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل " .
أو أدى فعله إلى ما جرى عليه على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة على تناوله ، كتناول السم على الجاهل بشأنه . لا يقال إنه باطل لقوله تعالى : { ما نهاكما ربكما } ، و{ قاسمهما } الآيتين ، لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس ، فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا ، ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك ، وزال المانع فحمله الطبع عليه .
والرابع : أنه عليه السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، فإنه ظن أن النهي للتنزيه ، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتتناول من غيرها من نوعها وكان المراد بها الإشارة إلى النوع ، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام " أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : " هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها " . وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده . وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية ، وأن التوبة مقبولة ، وأن متبع الهدى مأمون العاقبة ، وأن عذاب النار دائم ، وأن الكافر فيه مخلد ، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : { هم فيها خالدون } .
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقبها تعداد النعم العامة تقريرا لها وتأكيدا ، فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ، ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها ، ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها ، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك ، تدل على أنه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء ، خاطب أهل العلم والكتاب منهم ، وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم ، ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال :