ولهذا قال : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } فيذوقون حرها ، ويشتد عليهم أمرها ، ويتحسرون على ما أسلفوا .
{ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ } فسلمنا من هذا العذاب ، واستحققنا ، كالمطيعين ، جزيل الثواب . ولكن أمنية فات وقتها ، فلم تفدهم إلا حسرة وندمًا ، وهمًا ، وغمًا ، وألمًا .
أما مشهدهم في هذا العذاب فهو مشهد بائس أليم :
( يوم تقلب وجوههم في النار ) . .
والنار تغشاهم من كل جهة ، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها ، والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكال !
( يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) . .
وهي أمنية ضائعة ، لا موضع لها ولا استجابة ، فقد فات الأوان . إنما هي الحسرة على ما كان !
ثم قال : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا } أي : يسحبون في النار على وجوههم ، وتلوى وجوههم على جهنم ، يقولون وهم كذلك ، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول ، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا } [ الفرقان : 27 - 29 ] ، وقال تعالى : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] ، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم{[24055]} هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله ، وأطاعوا الرسول في الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ } .
يقول تعالى ذكره : لا يجد هؤلاء الكافرون وليا ولا نصيرا في يوم تقلب وجوههم في النار حالاً بعد حال يَقُولُونَ وتلك حالهم في النار : يَا لَيْتَنَا أطَعْنَا اللّهَ في الدنيا وأطعنا رسوله ، فيما جاءنا به عنه من أمره ونهيه ، فكنا مع أهل الجنة في الجنة ، يا لها حسرة وندامةً ، ما أعظمها وأجلها .
وقوله تعالى : { يوم } يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله والعامل { يجدون } ، وهذا تقدير الطبري ، ويجوز أن يكون العامل فيه { يقولون } ويكون ظرفاً للقول .
وقرأ الجمهور «تُقلَّب وجوههم » على المفعول الذي لم يسم فاعله بضم التاء وشد اللام المفتوحة ، وقرأ أبو حيوة «تَقلب » بفتح التاء بمعنى تتقلب ، وقرأ ابن أبي عبلة «تتقلب » بتاءين ، وقرأ خارجة وأبو حيوة «نقلب » بالنون ، وقرأ عيسى بن عمر الكوفي «تُقلِب » بكسر اللام وضم التاء أي تقلب السعير . وبنصب الوجوه في هاتين القراءتين ، فيتمنون يومئذ الإيمان وطاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم التمني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا يجد هؤلاء الكافرون وليا ولا نصيرا في يوم تقلب وجوههم في النار حالاً بعد حال "يَقُولُونَ "وتلك حالهم في النار: "يَا لَيْتَنَا أطَعْنَا اللّهَ" في الدنيا وأطعنا رسوله، فيما جاءنا به عنه من أمره ونهيه، فكنا مع أهل الجنة في الجنة، يا لها حسرة وندامةً، ما أعظمها وأجلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يوم تقلب وجوههم في النار} كقوله تعالى في آية أخرى: {الذين يحشرون على وجوههم} [الفرقان: 34]؛ وأصله ما ذكر في قوله: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} [الملك: 22] يفعل بهم في الآخرة على ما كانوا في الدنيا.
{يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} لا يزال الكفرة قائلين لهذا القول مرددين له في الآخرة لما رأوا من العذاب حين حل بهم.
{يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} الرسول المطلق رسول الله، والسبيل المطلق هو دين الله، وهو المعروف في القرآن.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ظهراً لبطن حين يسحبون عليها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالتقليب: تصريف الشيء في الجهات، ومثله التنقيل من جهة إلى جهة فهؤلاء تقلب وجوههم في النار، لأنه أبلغ في ما يصل إليهم من العذاب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
خصت الوجوه بالذكر، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب، بين أن بعض أعضائهم أيضا لا يدفع العذاب عن البعض، بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتقاء بيده، فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطئ رأسه كي لا يصيب وجهه.
وفي الآخرة تقلب وجوههم في النار، فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم} أي مقدار خلودهم فيها على تلك الحال بوم {تقلب} أي تقليباً كثيراً شديداً {وجوههم}...ذكر ذلك وإن كانت تلك النار غنية عنه لإحاطتها لأن ذكره أهول لما فيه من التصوير، وخص الوجوه لأن...الحدث فيها أنكأ.
ولما كان للإظهار مزيد بيان وهول مع إفادته استقلال ما هو فيه من الكلام بنفسه، قال: {في النار} أي المسعرة حال كونهم {يقولون} وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل، متمنين لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدرون أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني: {يا ليتنا أطعنا} أي في الدنيا {الله} أي الذي علمنا الآن أنه الملك الذي لا أمر لأحد معه.
ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع، أعادوا العامل فقالوا: {وأطعنا الرسولا} أي الذي بلغنا حتى نعاذ من هذا العذاب، وزيادة الألف في قراءة من أثبتها إشارة إلى إيذانهم بأنهم يتلذذون بذكره ويعتقدون أن عظمته لا تنحصر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فتتحول من حالٍ إلى حال، فتصفرُّ تارةً وتسودّ أخرى، أو تنتقل من جهةٍ إلى أخرى، كما هو اللحم المشويّ عند مسّ النار له.
{يَقُولُونَ يا لَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} فقد جاءنا الرسول بآيات الله، وعرّفنا مواقع أمره ونهيه، وما يرضيه ويسخطه، مما يصلح أمورنا ويبعدنا عن الفساد، ولكننا تمردنا وعصينا، من غير وعيٍ للنتائج، ولا تقدير للموقف.