قوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } وقال سفيان الثوري : يعني لم يخالفوه في شيء ، { وهو الحق من ربهم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين كفروا وصدوا مشركو مكة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات : الأنصار . { كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } حالهم ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عصمهم أيام حياتهم ، يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا .
وأما { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة .
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها ، وإذا كفرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة . { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :
وفي الجانب الآخر : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ) . . والإيمان الأول يشمل الإيمان بما نزل على محمد . ولكن السياق يبرزه ويظهره ليصفه بصفته : ( وهو الحق من ربهم )ويؤكد هذا المعنى ويقرره . وإلى جوار الإيمان المستكن في الضمير ، العمل الظاهر في الحياة . وهو ثمرة الإيمان الدالة على وجوده وحيويته وانبعاثه .
وهؤلاء : ( كفر عنهم سيئاتهم ) . . في مقابل إبطال أعمال الذين كفروا ولو كانت حسنات في شكلها وظاهرها . وبينما يبطل العمل ولو كان صالحا من الكافرين ، فإن السيئة تغفر للمؤمنين . وهو تقابل تام مطلق يبرز قيمة الإيمان وقدره عند الله ، وفي حقيقة الحياة . .
( وأصلح بالهم ) . . وإصلاح البال نعمة كبرى تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر . والتعبير يلقي ظلال الطمأنينة والراحة والثقة والرضى والسلام . ومتى صلح البال ، استقام الشعور والتفكير ، واطمأن القلب والضمير ، وارتاحت المشاعر والأعصاب ، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والسلام . . وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع ? ألا إنه الأفق المشرق الوضيء الرفاف .
ثم قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وسرائرهم ، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم ، { وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ، عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } جملة معترضة حسنة ؛ ولهذا قال : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس : أي أمرهم . وقال مجاهد : شأنهم . وقال قتادة وابن زيد : حالهم . والكل متقارب . وقد جاء في حديث تشميت العاطس : " يهديكم الله ويصلح بالكم " {[26606]} .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته ، وتصديق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق أضَلّ أعمالَهمْ يقول : جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد ، لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول تعالى ذكره : والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه وآمَنُوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمّدٍ يقول : وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ يقول : محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيىء ما عملوا من الأعمال ، فلم يؤاخذهم به ، ولم يعاقبهم عليه وأصْلَحَ بالَهُمْ يقول : وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه ، وفي الاَخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه .
وذُكر أنه عنى بقوله : الّذِينَ كَفَرُوا . . . الآية أهل مكة ، وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالحِاتِ . . . الآية ، أهل المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : نزلت في أهل مكة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ قال : الأنصار .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أمرهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : شأنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أصلح حالهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : حالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال حالهم . والبال : كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا بالات .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم . { وآمنوا بما نزل على محمد } تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله : { وهو الحق من ربهم } اعتراضا على طريقة الحصر . وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ ، وقرئ " نزل " على البناء للفاعل و " أنزل " على البناءين و " نزل " بالتخفيف . { كفر عنهم سيئاتهم } سترها بالإيمان وعملهم الصالح . { وأصلح بالهم } في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد .
وقرأ الناس : «نُزّل » بضم النون وشد الزاي . وقرأ الأعمش : «أنزل » معدى بالهمزة وقوله تعالى : { وأصلح بالهم } قال قتادة معناه : وأصلح حالهم . وقرأ ابن عباس «أمرهم » . وقال مجاهد : شأنهم .
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ، فإذا صلح ذلك صلحت حاله ، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع ، فقولك : خطر في بالي كذا ، وقولك : أصلح الله بالك : المراد بهما واحد ، ذكره المبرد . والبال : مصدر كالحال والشأن ، ولا يستعمل منها فعل ، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع ، وقد جاء مجموعاً لكنه شاذ ، فإنهم قالوا بالات .