قوله تعالى : { وترى المجرمين يومئذ مقرنين } ، مشدودين بعضهم ببعض ، { في الأصفاد } ، في القيود والأغلال واحدها صفد ، وكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته . قال أبو عبيدة : صفدت الرجل فهو مصفود ، وصفدته بالتشديد فهو مصفد . وقيل : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة ، بيانه قوله تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [ الصافات-22 ] ، يعني : قرناءهم من الشياطين . وقيل : معناه مقرنه أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد والقيود ، ومنه قيل للحبل : قرن .
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ * لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
يقول تعالى ذكره : وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذٍ ، يعني : يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسموات . مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة ، واحدها : صَفَد ، يقال منه : صفدته في الصّفَد صَفْدا وصِفادا ، والصفاد : القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم .
فَآبُوا بالنّهابِ وبالسّبايا *** وأُبْنا بالمُلُوكِ مُصَفّدِينا
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه : صُفُدا لا أصفادا . وأما من العطاء ، فإنه يقال منه : أصفدتُهُ إصفادا ، كما قال الأعشى :
تَضَيّفْتُهُ يَوْما فأكْرَمَ مَجْلِسِي *** وأصْفَدَنِي عِنْدَ الزّمانَةِ قائِدَا
وقد قيل في العطاء أيضا : صَفَدَني صَفْدا ، كما قال النابغة الذبيانيّ :
هَذَا الثّناءُ فإنْ تَسْمَعْ لِقائِلِهِ *** فَمَا عَرَضْتُ أبَيْتَ اللّعْنَ بالصّفَدِ
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ يقول : في وثاق .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد : السلاسل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال : مقرّنين في القيود والأغلال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، قال : سمعت الأعمش ، يقول : الصفد : القيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال : صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد : الأغلال .
{ المجرمين } هم الكفار ، و { مقرنين } مربوطين في قرن ، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .
وابن اللبون إذا ما لز في قرن . . . لم يستطع صولة البزل القناعيس{[7113]}
و { الأصفاد } الأغلال ، واحدها : صفد ، يقال : صفده وأصفده وصفده : إذا غلله ، والاسم : الصفاد ، ومنه قول سلامة بن جندل : [ الوافر ]
وزيد الخيل قد لاقى صفاداً . . . يعض بساعد وبعظم ساق{[7114]}
وكذلك يقال في العطاء ، و «الصفد » العطاء ، ومنه قول النابغة .
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد . . . {[7115]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وترى المجرمين}... {يومئذ مقرنين في الأصفاد}، يعني موثقين في السلاسل والأغلال، صفدت أيديهم إلى أعناقهم في الحديد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وتعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذٍ، يعني: يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسموات. "مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ "يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة، واحدها: صَفَد... والصفاد: القيد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد} إلى آخر ما ذكر؛ جعل الله عذاب الكفار في الآخرة في الأسباب والأشياء التي كانوا يفتخرون بها في الدنيا من اللباس والشراب والأصحاب وغيرها، وهي كانت سبب منعهم عن إجابة الرسل في ما دعوهم إليه، فجعل تعذيبهم في الآخرة بذلك النوع من النار، فقال: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد} يُقرَن: يُقَيّدُ بعضهم ببعض...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{مقرنين في الأصفاد} الصفد: هو اقتران القدمين معا. [نفسه: 1/181]...
لما وصف نفسه سبحانه بكونه قهارا بين عجزهم وذلتهم، فقال: {وترى المجرمين يومئذ}. واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أمورا:
فالصفة الأولى: كونهم مقرنين في الأصفاد...
{مقرنين في الأصفاد} هو قرن بعض الكفار ببعض، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية، لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات، والخسارات هي المراد بقوله: {مقرنين في الأصفاد}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَتَرَى المجرمين} عطف على برزوا، والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروزُ فهو دفعيٌّ لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرضُ أو يوم يُنجِز وعدَه {مُقْرِنِينَ} قُرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر، أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبهما من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين {في الأصفاد} في القيود أو الأغلال، وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى: {مُقْرِنِينَ} أو حال من ضميره أي مصفّدين...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
يحتمل على ما قيل أن يكون تمثيلاً لمؤاخذتهم على ما تقرفته أيديهم وأرجلهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} أي: يسلسل كل أهل عمل من المجرمين بسلاسل من نار فيقادون إلى العذاب في أذل صورة وأشنعها وأبشعها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت: (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار)... فمشهد المجرمين... مقرونين في الوثاق، يمرون صفا وراء صف.. مشهد مذل دال كذلك على قدرة القهار...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد ذكر سبحانه وتعالى أولا وصفهم بالإجرام؛ لأن ما كسبوه من جرائم في اعتقادهم، وفي أعمالهم، وفي إفسادهم في الأرض عبثا وفسادا، هو السبب فيما ينالون من عقاب...