قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } . كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم ، قال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني اتخذتك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فأنزل الله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } .
قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } . قيل : بعد ما سلف ، وقيل : معناه لكن ما سلف أي : ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه .
قوله تعالى : { إنه كان فاحشةً } . أي إنه فاحشة وكان فيه صلة ، والفاحشة أقبح المعاصي .
قوله تعالى : { ومقتاً } أي : يورث مقت الله ، والمقت : أشد البغض .
قوله تعالى : { وساء سبيلا } . وبئس ذلك طريقاً ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت . وكان منهم الأشعث بن قيس ، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي ، أنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أنا أحمد بن هشام الحضرمي ، أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن حفص بن غياث ، عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه .
ثم قال تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا }
أي : لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي : الأب وإن علا . { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه { وَمَقْتًا } من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه ، مع الأمر ببره .
{ وَسَاءَ سَبِيلًا } أي : بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية ، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها .
وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا . وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا ، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه ، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء ! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :
( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ، ولا يتوقف خضوعنا له ، وتسليمنا به ، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة ، فحسبنا أن الله قد شرعه ، لنستيقن أن وراءه حكمة ، وأن فيه المصلحة .
نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه ؛ فيصبح في خياله ندا له . وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا ، فيكره أباه ويمقته ! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحد ، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .
لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتا : أي بغضا وكراهية . وجعله سبيلا سيئا . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية ، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
قد ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك لم يؤاخذهم به إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا قراد ، قال : حدثنا ابن عيينة وعمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، قال : فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله ، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثم قال الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة ، كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية ، وفي منظور بن رباب ، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة ، وكانت عند أبيه رباب بن سيار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها حتى يطلقها ، أتحلّ لابنه ؟ قال : هي مرسلة ، قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } قال : قلت لعطاء : ما قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } ؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، يقول : كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل فهي عليك حرام .
واختلف في معنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } فقال بعضهم : معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقالوا هو من الاستثناء المنقطع .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى : ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ، { إنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه .
وقالوا : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } كقول القائل للرجل : لا تفعل ما فعلت ، ولا تأكل ما أكلت بمعنى : ولا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلت .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم ، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لم يكنّ لهم حلائل ، وإنما ما كان من آبائكم منهنّ من ذلك فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف } . . . . الاَية ، قال : الزنا ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . فزاد ههنا المقت .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه : ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم ، فمضى في الجاهلية ، فإنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، فيكون قوله : { مِنَ النّساءِ } من صلة قوله : { وَلا تَنْكِحُوا } ويكون قوله : { ما نَكَحَ آباؤكُمْ } بمعنى المصدر ، ويكون قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } بمعنى الاستثناء المنقطع ، لأنه يحسن في موضعه : لكن ما قد سلف فمضى ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً .
فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الاَية في النهي عن نكاح حلائل الاَباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإن قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم ، وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الاَباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ، ابتدىء مثله في الإسلام ، بنهي الله جلّ ثناؤه عنه ، لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان «من » لبني آدم و«ما » لغيرهم ، ولا تقل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، فإنه يدخل في «ما » ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم ، فحرم عليهم في الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَباء ، وكل نكاح سواه ، نهى الله تعالى ذكره ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم .
ومعنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } : إلا ما قد مضى ، { إنّهُ كان فاحِشَةً } يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم ، كنكاح آبائكم المحرّم عليكم ابتداء مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم فاحشة ، يقول : معصية { وَمَقْتا وَساءَ سَبِيلاً } : أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تتناكحونها .
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة ، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر . { من النساء } بيان ما نكح على الوجهين . { إلا ما قد سلف } استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل : وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن . وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف ، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر . { إنه كان فاحشة ومقتا } علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ، ممقوتا عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي { وساء سبيلا } سبيل من يراه ويفعله .