معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (38)

قوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته ، { وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم } يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون . { ومما رزقناهم ينفقون* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (38)

{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي : انقادوا لطاعته ، ولبَّوْا دعوته ، وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه .

ومن الاستجابة للّه ، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلذلك عطفهما على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } من النفقات الواجبة ، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق .

{ وَأَمْرُهُمْ } الديني والدنيوي { شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم ، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها ، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء ، أو غيره ، وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (38)

36

فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها . . ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة :

وأقاموا الصلاة . .

وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى ، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه . قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهي صورة الاستجابة الأولى لله . وهي الصلة بين العبد وربه . وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً ، لا يرتفع رأس على رأس ، ولا تتقدم رجل على رجل !

ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى - قبل أن يذكر الزكاة :

( وأمرهم شورى بينهم )

والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة . وهو كما قلنا نص مكي . كان قبل قيام الدولة الإسلامية . فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين . إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد .

والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية . والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية .

ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً ، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها . إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية ، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية . وهي من ألزم صفات القيادة .

أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي ؛ فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان ، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة ، وليست نصوصاً حرفية ، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة ، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري ، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ؛ ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع ، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها . ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية ، لا بد قبلها من وجود مسلمين ، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر . والإ فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة ، ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي . .

ومتى وجد المسلمون حقاً ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق .

( ومما رزقناهم ينفقون ) . .

وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة . ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيهاً مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية . بل إنه ولد مع مولدها .

ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز . كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة . حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة .

وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات . .