{ يبصرونهم } يرونهم ، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس ، فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسأله ، ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه . قال ابن عباس : يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعده . وقيل : { يبصرونهم } يعرفونهم ، أي : يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه ، ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه . وقال السدي : يعرفونهم أما المؤمن فببياض وجهه ، وأما الكافر فبسواد وجهه ، { يود المجرم } يتمنى المشرك ، { لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته } .
وقوله : يُبَصّرُونَهُمْ اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بالهاء والميم في قوله يُبَصّرُونَهُمْ فقال بعضهم : عُنى بذلك الأقرباء أنهم يعرّفون أقربائهم ، ويعرّف كلّ إنسان قريبه ، فذلك تبصير الله إياهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُبَصّرُونَهُمْ قال : يعرَف بعضهم بعضا ، ويتعارفون بينهم ، ثم يفرّ بعضهم من بعض ، يقول : لكُلّ امْرِىْ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيِهِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يُبَصّرُونَهُمْ يعرّفونهم يعلمون ، والله ليعرّفنّ قوم قوما ، وأناس أناسا .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك المؤمنون أنهم يبصرون الكفار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُبَصّرُونَهُمْ المؤمنون يبصرون الكافرين .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك الكفار الذين كانوا أتباعا لاَخرين في الدنيا على الكفر ، أنهم يعرفون المتبوعين في النار . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُبَصّرونَهُمْ قال : يبصرون الذين أضلوهم في الدنيا في النار .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : معنى ذلك : ولا يسأل حميم حميما عن شأنه ، ولكنهم يبصرونهم فيعرفونهم ، ثم يفرّ بعضهم من بعض ، كما قال جلّ ثناؤه : يَوْمَ يَفِرّ المَرْءُ مِنْ أخِيهِ وأُمّهِ وأبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرْىءٍ منهم يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالصواب ، لأن ذلك أشبهها بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن قوله : يُبَصّرُونَهُمْ تلا قوله : وَلا يَسألُ حَميمٌ حَميما فلأن تكون الهاء والميم من ذكرهم أشبه منها بأن تكون من ذكر غيرهم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلا يَسألُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر القارىء وشَيبة بفتح الياء وقرأه أبو جعفر وشيبة : «وَلا يُسْئَلُ » بضم الياء ، يعني : لا يقال لحميم أين حميمك ؟ ولا يطلب بعضهم من بعض .
والصواب من القراءة عندنا فتح الياء ، بمعنى : لا يسأل الناس بعضهم بعضا عن شأنه ، لصحة معنى ذلك ، ولإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وموقع { يبصّرونهم } الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحِمَّاء لا يرى بعضهم بعضاً يومئذٍ لأن كل أحد في شاغل ، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذاباً فوق العذاب .
ويجوز أن تكون جملة { يبصرونهم } في موضع الحال ، أي لا يسأل حميم حميماً في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له : انظر مَاذا يقاسي فلان . و { يبصرونهم } مضارع بَصَّره بالأمر إذا جعله مبصراً له ، أي ناظراً فأصله : يبصَّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل .
والضميران راجعان إلى { حميم } المرفوع وإلى { حميماً } المنصوب ، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظراً إلى عموم { حمِيمٌ } و { حميماً } في سياق النفي .
و { يودّ } : يحب ، أي يتمنى ، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب .
وإما بكلام يصدر منه نظير قوله : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] ، وهذا هو الظاهر ، أي يصرخ الكافر يومئذٍ فيقول : أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون ذلك فضيحة له يومئذٍ بين أهله .
و { المجرم } : الذي أتى الجُرم ، وهو الذنب العظيم ، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع .
و { يومئذٍ } هو { يوم تكون السماء كالمهل } فإن كان قوله : { يوم تكون السماء } متعلقاً ب { يودّ } فقوله : { يومئذٍ } تأكيد ل { يوم تكون السماء كالمهل ، } وإن كان متعلقاً بقوله : { تعرج الملائكة } [ المعارج : 4 ] فقوله : { يومئذٍ } إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده .
و { لو } مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل { يود } ، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره .
وقرأ الجمهور { يومئذٍ } بكسر ميم ( يوم ) مجروراً بإضافة ( عذاب الله ) . وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإِضافة ( يوم ) إلى ( إذ ) ، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان .
والافتداء : إعطاء الفِداء ، وهو ما يعطى عوضاً لإِنقاذٍ من تبعةٍ ، ومنه قوله تعالى : { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } في البقرة ( 85 ) وقوله : ولو افتدى به في آل عمران ( 91 ) ، والمعنى : لو يفتدي نفسه ، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.