قوله تعالى : { إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة بنت فاقوذا أم مريم ، وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام وبينهما ألفا وثمانمائة سنة ، وقيل كان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام ألف سنة ، وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، وقيل عمران بن أشهم .
قوله تعالى : { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } أي جعلت لك الذي في بطني محرراً نذراً مني لك .
قوله تعالى : { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } . والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه ، محرراً أي عتيقاً خالصاً لله مفرغاً لعباده الله ولخدمة الكنيسة ، لا أشغله بشيء من الدنيا . وكل ما أخلص فهو محرر يقال : حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق . قال الكلبي محمد بن إسحاق وغيرهما : كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير أن أحب أقام فيه ، وإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا من نسله محرر لبيت المقدس ، ولم يكن محرراً إلا الغلمان ، ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى ، فحررت أم مريم ما في بطنها .
وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين وكانت إيشاع بنت قافوذا أم يحيى عند زكريا ، وكانت حنة بنت قافوذا أم مريم عند عمران ، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً وقالت : اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو ؟ فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك ؟ فوقعاً جميعاً في هم من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم .
ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها ، فقال : { إذ قالت امرأة عمران } أي : والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا } أي : جعلت ما في بطني خالصا لوجهك ، محررا لخدمتك وخدمة بيتك { فتقبل مني } هذا العمل المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي ، هذا وهي في البطن قبل وضعها .
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي } ف«إذْ » من صلة «سميع » . وأما امرأة عمران ، فهي أمّ مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، وكان اسمها فيما ذكر لنا حنة ابنة فاقوذ بن قتيل . كذلك :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه . وقال غير ابن حميد : ابنة فاقود بالدال ابن قتيل .
فأما زوجها فإنه عمران بن ياشهم بن آمنون بن منشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن اشابرابان بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا . كذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في نسبه .
وأما قوله : { رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرّرا } فإن معناه : إني جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي في بطني محرّرا لعبادتك ، يعني بذلك : حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة ، عتيقة من خدمة كل شيء سواك ، مفرغة لك خاصة . ونصب «محرّرا » على الحال من «ما » التي بمعنى «الذي » . { فَتَقَبّلْ مِنّي } أي فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ . { إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِيمُ } يعني : إنك أنت يا ربّ السميع لما أقول وأدعو ، العليم لما أنوي في نفسي وأريد ، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته . وكان سبب نذر حنة ابنة فاقوذ امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الاَية فيما بلغنا ، ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : تزوّج زكريا وعمران أختين ، فكانت أمّ يحيى عند زكريا ، وكانت أمّ مريم عند عمران ، فهلك عمران وأمّ مريم حامل بمريم ، فهي جنين في بطنها . قال : وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنّت ، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان . فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له ، فتحرّكت نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، فحملت بمريم وهلك عمران . فلما عرفت أن في بطنها جنينا ، جعلته لله نذيرة¹ والنذيرة أن تعبّده لله ، فتجعله حبسا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم ذكر امرأة عمران ، وقولها : { رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } أي نذرته ، تقول : جعلتُه عتيقا لعبادة الله لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا . { فَتَقَبّلْ مِنّي إنكَ أنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطّفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : { مُحَرّرا } قال : خادما للبِيعة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد ، قال : خادما للكنيسة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن الشعبي في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : فرّغته للعبادة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي في قوله : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : جعلته في الكنيسة ، وفرّغته للعبادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، نحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : للكنيسة يخدمها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : للبيعة والكنيسة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : محرّرا للعبادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } . . . الاَية . كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها ، وكانوا إنما يحررون الذكور ، وكان المحرر إذا حرّر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : نذرت ولدها للكنيسة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { إذْ قَالَتِ امْرأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } قال : وذلك أن امرأة عمران حملت ، فظنت أن ما في بطنها غلام ، فوهبته لله لا يعمل في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها . قال : وكانوا إنما يحرّرون الذكور ، فكان المحرّر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : جعلت ولدها لله وللذين يدرسون الكتاب ويتعلمونه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة ، وكانت لا تلد . فجعلت تغبط النساء لأولادهن ، فقالت : اللهمّ إن علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس ، فيكون من سَدَنته وخدامه . قال : وقوله : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } إنها للحرّة ابنة الحرائر محرّرا للكنيسة يخدمها .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } . . . الاَية كلها ، قال : نذرت ما في بطنها ثم سَيّبَتْها .
واختلف الناس{[3104]} في العامل في قوله { إذ قالت } فقال أبو عبيدة معمر : { إذ } زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في { إذ } قوله { سميع } و { امرأة عمران } اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : { نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاماً محرراً ، وفي هذا نظر{[3105]} ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس .
قال ابن إسحاق{[3106]} : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران ، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : { محرراً } معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة ، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك{[3107]} ، فقالت { ما في بطني } ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها { فتقبل مني } أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها .