التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف " إذا " في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير : أذر لهم وقت قولها رب إنى نذرت . . . ألخ . وقيل هو متعلق بقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول .

وامرأة عمران هذه هى " حنة " بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها ، وهو أبو مريم .

وقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التي شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه .

وقوله { نَذَرْتُ } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان .

والمعنى : اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول : يا رب إني نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص ، وتلك النية الصادقة ، { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } لقولي ولأقوال خلقك { العليم } بنيتى وبنوايا سائر عبادك .

فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص ، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى في بطنها ، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته ، واللام في قوله " لك " للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك .

وقوله { مُحَرَّراً } حال من " ما " والعامل فيه " نذرت " .

قال بعضهم : " وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج . ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا العلمان ، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى " . وجملة { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } تعليلية لاستدعاء القبول ، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما .