الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

{ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } : أي جعلت الذي في بطني محرَّرا نذراً منَّي لك ، والنذر : ما أوجبه الانسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة .

قال اللَّه فقولي :

{ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً } [ مريم : 26 ] : أي أوجبت .

وقال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : " من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه ، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه " .

قال الأعشى :

غشيتُ لليلي بليل خدورا *** وطالبتها ونذرت النذورا

ومن هذا قولهم : نذر فلان دم فلان : أي أوجبت على نفسه قتله .

وقال جميل :

فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي *** وحموا لقائي يابثين لقوني

محرَّراً : أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة حبيساً عليها مفرغاً لعبادة الله ولخدمة الكنيسة ، لا يشغله شيء من الدنيا وكلَّما أخلص فهو محرَّر ، يقال : حرَّرت العبد إذا أعتقته ، وحرَّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه ، ورجل حرّ إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه متعلق ، والطين الحر الذي خلُص من الرمل والحصاة والعيوب .

ومحرَّراً : نصب على الحال .

وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما : فإن الحر رجل إذا حرَّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام ، وإنْ أحبَّ أن يذهب ذهب حيث شاء ، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك ، ولم يكن أحد من [ الأنبياء ] والعلماء إلاَّ ومن نسل محرَّراً ببيت المقدس ، ولم يكن محرَّراً إلاَّ الغلمان ، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى ، فحرَّرت أُمَّ مريم ما في بطنها .

وكان القصة في ذلك أنَّ زكرَّيا وعمران تزوجا أُختين ، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عند زكرَّيا وحنَّة بنت فاقود أم مريم عند عمران ، وقد كان أمسك على حنَّة الولد حتى أيست وعجزت ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة بصرتُ بطائر يطعم فرخاً فتحركت لذلك شهوتها للولد ، ودعت الله أن يهب لها ولداً وقالت : اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدَّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذراً وشكراً ، فحملت بمريم فحرَّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو ، فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى [ والأُنثى عورة ] لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همَّ من ذلك ، فهلك عمران وحنَّة حامل بمريم .