قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } أي : كما بعثنا فيكم ، { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، وهو كل معبود من دون الله ، { فمنهم من هدى الله } أي : هداه الله إلى دينه ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره ، { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي : مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .
{ 36 - 37 ْ } { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ }
يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم ، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولا ، وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له { أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ْ } فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها قسمين ، { فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ْ } فاتبعوا المرسلين علما وعملا ، { وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ْ } فاتبع سبيل الغي .
{ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ْ } بأبدانكم وقلوبكم { فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ْ } فإنكم سترون من ذلك العجائب ، فلا تجدون مكذبا إلا كان عاقبته الهلاك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولاً كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له وأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة ، وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ يقول : وابعدوا من الشيطان ، واحذروا أن يغويكم ويصدّكم عن سبيل الله فتضلوا . فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ يقول : فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله ، فوفّقه لتصديق رسله والقبول منها والإيمان بالله والعمل بطاعته ، ففاز وأفلح ونجا من عذاب الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ يقول : وممن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقّت عليهم الضلالة ، فجاروا عن قصد السبيل ، فكفروا بالله وكذّبوا رسله واتبعوا الطاغوت ، فأهلكهم الله بعقابه وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين . فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ يقول تعالى ذكره لمشركي قريش : إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله وتكذيبهم رسوله ، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها والبلاد التي كانوا يعمرونها فانظروا إلى آثار الله فيهم وآثار سخطه النازل بهم ، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم ، فإنكم ترون حقيقة ذلك وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله ، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت . { فمنهم من هدى الله } وفقهم للإيمان بإرشادهم . { ومنهم من حقّت عليه الضلالة } إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم ، وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل اله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله ، وقد صرح به في الآية الأخرى . { فسيروا في الأرض } يا معشر قريش . { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون .
لما أشار قوله تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه بين ذلك في هذه الآية ، أي إنه بعث الرسل آمراً بعبادته وتجنب عبادة غيره ، و { الطاغوت } في اللغة كل ما عُبد من دون الله من آدمي راض بذلك ، أو حجر أو خشب ، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته ، ومنهم أيضاً من أعرض وكفر { فحقت عليه الضلالة } ، وهي مؤدية إلى النار حتماً ، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا ، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين .
عطف على جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } [ سورة النحل : 35 ] . وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالاً بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة ، فقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة } بيان لمضمون جملة { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] .
وجملة فمنهم من هدى الله إلى آخرها بيان لمضمون جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } .
والمعنى : أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام ؛ فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا ، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا . ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم .
و { أن } تفسيرية لجملة { بعثنا } لأنّ البعث يتضمّن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ .
و { الطاغوت } : جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام . وقد يذكرونه بصيغة الجمع ، فيقال : الطواغيت ، وهي الأصنام . وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النساء ( 51 ) .
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهاً للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ سورة النحل : 35 ] بأن الله بيّن لهم الهُدى ، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه ، فهو الهادي لهم .
والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة ، أي ثبتت ولم ترتفع .
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين ، كما في قوله : { ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ سورة الأنعام : 125 ] ، وقوله عقب هذا { فإن الله لا يهدي من يضلّ } [ سورة النحل : 37 ] على قراءة الجمهور ، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسباباً عديدة بعضها جاءٍ من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض ، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله ، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى . فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم ، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم ، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور . فافْهَم .
ثم فرّع على ذلك الأمَر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد ، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفاً على السير في الأرض ، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل .