معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا} (94)

قوله تعالى : { قالوا يا ذا القرنين } فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفهمون ؟ قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولاً قال الذين من دونهم يا ذا القرنين . { إن يأجوج ومأجوج } ، قرأهما عاصم مهموزين ، والآخرون بغير همز وهما لغتان أصلهما من أجيج النار ، وهو ضوؤها وشررها ، شبهوا به لكثرتهم وشدتهم . وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار ، ويترك الهمز اسمان أعجميان ، مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح . قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت واحدة فهم الترك ، سموا الترك لأنهم تركوا خارجين . قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعاً : إن يأجوج أمة ، ومأجوج أمة ، كل أمة أربع آلاف أمة ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم ، يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز ، شجر الشام ، طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنه ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ، ومنهم من هو مفرط في الطول . وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب ، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم . وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبداً صالحاً . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس ، يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها ، يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض ، إحداهما : في القطر الأيمن ، يقال لها : هاويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ، فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم ؟ وبأي جمع أكاثرهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ قال الله عز وجل : إني سأوطقك وأبسط لك لسانك ، وأشد عضدك فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك ، يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك ، فانطلق ، حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد ، فدعاهم إلى الله وعبادته ، فمنهم من آمن ، ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ، ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش ، لهم أنياب وأضراس كالسباع ، يأكلون الحيات والعقارب ، وكل ذي روح ، خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ، ولا شك أنهم سيملؤون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها ، " فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ، قال ما مكني فيه ربي خير " ، قال : أعدوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم ، فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ، ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى ، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما ، فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس ، يذاب فيصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض . قوله تعالى : { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } ، قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا شيئاً يابساً إلا احتملوه ، وأدخلوه أرضهم ، وقد لقوا منهم أذى شديداً وقتلاً . وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس . وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم . { فهل نجعل لك خرجاً } ، قرأ حمزة و الكسائي ( خراجاً ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( خرجا ) بغير ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد أي : جعلاً وأجراً من أموالنا . وقال أبو عمرو : الخرج ما تبرعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه . وقيل : الخراج : على الأرض ، والخرج : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك . { على أن تجعل بيننا وبينهم سداً } أي حاجزا ً ، فلا يصلون إلينا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا} (94)

{ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ } بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك . { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ْ } أي جعلا { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ْ } ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد ، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه ، فبذلوا له أجرة ، ليفعل ذلك ، وذكروا له السبب الداعي ، وهو : إفسادهم في الأرض ، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ، ولا رغبة في الدنيا ، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية ، بل كان قصده الإصلاح ، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة ، ولم يأخذ منهم أجرة ، وشكر ربه على تمكينه واقتداره ، فقال لهم : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ْ } .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا} (94)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتّىَ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُواْ يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىَ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } .

يقول تعالى ذكره : ثم سار طرقا ومنازل ، وسلك سبلاً حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة بعض الكوفيين : «حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ » بضمّ السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين . وكان بعض قرّاء المكيين يقرؤه بفتح ذلك كله . وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة ، ويضمّ السين في يس ، ويقول : السدّ بالفتح : هو الحاجز بينك وبين الشيء والسدّ بالضم : ما كان من غشاوة في العين . وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله : حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة . وروي عن عكرمة في ذلك ما :

حدثنا به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السّدّ ، يعني بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو السدّ . وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء ، وعكرمة بين السّد والسّد ، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرقان ما بين ذلك على ما حكي عنهما . ومما يبين ذلك أن جمع أهل التأويل الذي رُوي لنا عنهم في ذلك قول ، لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه ، ولو كان مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله ، ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك . وأما ما ذُكر عن عكرمة في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون ، وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه . والسّد والسّد جميعا : الحاجز بين الشيئين ، وهما ههنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما ، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم ، ليقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس «حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ » قال : الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج ، أمتين من وراء ردم ذي القرنين ، قال : الجبلان : أرمينية وأذربيجان .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة «حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ » وهما جبلان .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «بينَ السّدّيْنِ » يعني بين جبلين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : «بينَ السّدّيْنِ » قال : هما جبلان .

وقوله وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً يقول عزّ ذكره : وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله يَفْقَهُونَ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة يَفْقَهُونَ قَوْلاً بفتح القاف والياء ، من فقَه الرجل يفقه فقها . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً » بضمّ الياء وكسر القاف : من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها : إذا فهمته ذلك .

والصواب عندي من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم ، فيكون صوابا القراءة بذلك . وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل : إما بألسنتهم ، وإما بمنطقهم ، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا .

وقوله : إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ اختلفت القرّاء في قراءة قوله إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فقرأت القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم : «إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ » بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج ، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا ، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا يأجوج : يفعول من أججت ، ومأجوج : مفعول .

والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ، أن يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج .

لَوْ أنّ ياجُوجَ ومَاجُوجَ معَا *** وعادَ عادُوا واسْتَجاشُوا تُبّعا

وهم أمّتان من وراء السدّ .

وقوله : مِفْسِدُونَ فِي الأرْضِ اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ قال : كانوا يأكلون الناس .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون . ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الاَية ، وذكر سبب بنائه للردم :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلاً من أهل مصر اسمه مرزِبا بن مردَبة اليوناني ، من ولد يونن بن يافث بن نوح .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان خالد رجلاً قد أدرك الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال : «مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَحْتِها بالأسْبابِ » قال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يقول : يا ذا القرنين ، فقال : اللهمّ غفرا ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء ، حتى تسموا بأسماء الملائكة ؟ فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فالحقّ ما قال ، والباطل ما خالفه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم . ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر . وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عزّ وجلّ له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمه عند مغرب الشمس ، يقال لها : ناسك . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فأمة في قطر الأرض الأيمن ، فقال لها : هاويل . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها : تأويل فلما قال الله له ذلك ، قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يَقدر قَدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها ، بأيّ قوّة أكابرهم ، وبأيّ جمع أكاثرهم ، وبأيّ حيلة أكايدهم ، وبأيّ صبر أقاسيهم ، وبأيّ لسان أناطقهم ، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ، وبأيّ سمع أعي قولهم ، وبأيّ بصر أنفذهم ، وبأيّ حجة أخاصمهم ، وبأيّ قلب أعقل عنهم ، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم ، وبأيّ قسط أعدل بينهم ، وبأيّ حلم أصابرهم ، وبأيّ معرفة أفصل بينهم ، وبأيّ علم أتقن أمورهم ، وبأيّ يد أسطو عليهم ، وبأيّ رجل أطؤهم ، وبأيّ طاقة أخصمهم ، وبأيّ جند أقاتلهم ، وبأيّ رفق أستألفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقول لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم ، وأنت الربّ الرحيم ، الذي لا يكلّف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها ، بل أنت ترأفها وترحمها . قال الله عزّ وجلّ : إني سأطوّقك ما حمّلتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكلّ شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء ، وأمدّ لك بصرك ، فتنفذ كلّ شيء ، وأدبر لك أمرك فتتقن كلّ شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشدّ لك ظهرك ، فلا يهدّك شيء ، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة ، فأجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كلّ شيء ، وأشدّ لك وطأتك ، فتهدّ كلّ شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء .

ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤمّ الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوّة وبأسا لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة ، وقلوبا متفرّقة فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، فأحاطتهم من كلّ مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم أخذ عليه بالنور ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صدّ ، فعمد إلى الذين تولوا عنه ، فأدخل عليهم الظلمة ، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كلّ جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم وأخدهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجنّد من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل ، وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطىء إذا ائتمر ، وإذا عمل عملاً أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثم دفع إلى كلّ إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ، فلم يزل كذلك دأبة حتى انتهى إلى هاويل ، فعمل فيها كعمله في ناسك . فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا ، كفعله في الأمتين اللتين قبلها ، ثم كرّ مقبلاً في ناحية الأرض اليسرى ، وهو يريد تأويل وهي الأمة التي بجيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله فلما بلغها عمل فيها ، وجند منها كفعله فيما قبلها فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجنّ وسائر الناس ، ويأجوج ومأجوج فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكلّ ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدّة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا على أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهُمْ سَدّا قالَ ما مَكّنِي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فأعِينُونِي بِقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما أعدّوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم .

ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا ، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها ، وأحناك كأحناك الإبل قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجِرّة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسنّ ، أو الفرس القويّ ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحرّ والبرد إذا أصابهم ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها ، تَسعانة إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ، ويَشْتى في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين يام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كلّ سنة بواحد ، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرّت عليهم الإناث ، وشَبقت منهم الرجال الذكور ، وإذا أخطأهم هَزَلُوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور ، وحالت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحَمام ، ويعوُون عُواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم .

فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصّدَفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بُعد ما بينهما مئة فرسخ فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس ، يذاب ثم يُصبّ عليه ، فصار كأنه عِرْق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عِرْقا من نحاس أصفر ، فصار كأنه بُرد محبّر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجنّ فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة ، وسيرتهم حسنة ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ، ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبّون ، ولا يقتتلون ، ولا يَقْحَطُون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الاَفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا ، وليس فيهم مسكين ، ولا فقير ، ولا فظّ ، ولا غليظ فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم ، عجب منه وقال : أخبروني أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها ، فلم أجد مثلكم ، فأخبروني خبركم قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد ، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذِكرُه من قلوبنا قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن قال : فما لكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا : لا نتظالم قال : فما بالكم ليس فيكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نتكابر قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قِبَل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا قال : فما بالكم لا تستَبّون ولا تقتتلون ؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام قال : فما بالكم كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة مستوية ؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صحّت صدورنا ، فنزع بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية قال : فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذلّ والتواضع قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا ؟ قالوا : من قِبَل أنا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل قال : فما بالكم لا تُقْحَطون ؟ قالوا : لا نغفل عن الاسغفار قال : فما بالكم لا تَحْرَدون ؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه قال : فما بالكم لا تصيبكم الاَفات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم قال : حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويُواسون فقراءهم ، وَيعفون عمن ظلمهم ، ويُحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلُمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويَصِلون أرحامهم ، ويؤدّون أماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويُوَفّون بعهودهم ، ويَصدُقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولا يستنكفون عن أقاربهم ، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء ، وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السّدّ كُلّ يَوْمٍ ، حتى إذَا كادُوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشّمْسِ قالَ الّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَحْفِرُونَهُ غَدا ، فَيُعِيدُهُ اللّهُ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ ، حتى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ : إنْ شاءَ اللّهُ ، فَيَحْفُرُونَهُ ويَخْرُجُون على النّاسِ ، فَيَنْشِفُونَ المِياهَ ، ويَتَحَصّنُ النّاسُ فِي حُصُونِهِمْ ، فَيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلى السّماءِ ، فَيرْجِعُ فِيها كَهَيْئَةِ الدّماءِ ، فَيَقُولُونَ : قَهَرْنا أهْلِ الأرْضِ ، وَعَلَوْنا أهْلَ السّماءِ ، فَيَبْعَثُ اللّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفا فِي أقْفائِهمْ فَتَقْتُلُهُمْ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ إنّ دَوَابّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ ثم الظّفَريّ ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يُفْتَحُ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ فَيَخْرُجُونَ على النّاسِ كمَا قالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يِنْسِلُونَ فَيَغْشُونَ الأرْضَ ، ويَنْحازُ المُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إلى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ ، وَيَضُمّونَ إلَيْهِمْ مَوَاشيَهُمْ ، فَيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ ، حتى إنّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرّ بالنّهْرَ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهِ ، حتى يَتْرُكُوهُ يابسا ، حتى إنّ بَعْدَهمْ لَيَمُرّ بِذلكَ النّهْرِ ، فيَقُولُ : لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرّةً ، حتى لَمْ يَبْقَ مِنَ النّاسِ أحَدٌ إلاّ انْحازَ إلى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ ، قالَ قائِلُهُمْ : هَولاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ ، بَقِيَ أهْلُ السّمَاءِ ، قالَ : ثُمّ يَهُزّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ، ثُمّ يَرْمي بها إلى السّماءِ ، فَترْجِعُ إلَيْهِ مُخَضّبَةً دَما للْبِلاءِ وَالفِتْنَةِ . فَبَيّناهُمْ على ذلكَ ، بَعَثَ اللّهُ عَلَيْهِمْ دُودا في أعناقِهِمْ كالنّغَفِ ، فَتَخْرجُ فِي أعْناقِهِمْ فِيُصْبِحُونَ مَوْتَى ، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسّ ، فَيَقُولُ المُسلِمُونَ : ألا رَجُلٌ يَشْري لَنا نَفْسَهُ ، فَيَنْظُرُ ما فعل العدوّ ، قال : فَيَتَجَرّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُحْتَسِبا لِنَفْسِهِ ، قَدْ وَطّنَها على أنّهُ مَقُتُولٌ ، فيَنْزِلُ فَيَجِدُهُمْ مَوْتى ، بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، فَيْنادي : يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ ، ألا أبْشِرُوا ، فإنّ اللّهَ قَدْ كَفاكُمْ عَدُوّكُمْ ، فيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائِنِهمْ وَحُصُونِهِمْ ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلاّ لُحُومُهُمْ ، فَتَشْكَرُ عَنْهُمْ أحُسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النّباتِ أصَابَتْ قَطّ » .

حدثني بحر بن نصر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية ، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز ، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطى سائر جسده .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قالوا يا ذَا القَرْنَيْنِ إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ قال : كان أبو سعيد الخُدريّ يقول : إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُلٍ » قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد يولد له ألف رجل من صلبه .

فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج ، يدلّ على أن الذين قالوا لذي القرنين إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ إنما أعلموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم ، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد .

فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيّنا ، فالصحيح من تأويل قوله إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض .

وقوله فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا كأنهم نحوا به نحو المصدر من خَرْج الرأس ، وذلك جعله . وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا » بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم ، وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم .

وأولى القراءتين في ذلك عدنا بالصواب قراءة من قرأه : «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا » بالألف ، لأن القوم فيما ذُكر عنهم ، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدّ ، وقد بين ذلك بقوله : فَأعِينُونِي بقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْما ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا » قال : أجرا علَى أنْ تَجعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا » قال : أجرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا » قال : أجرا .

وقوله : علَى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا ، وهو السدّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا} (94)

{ قالوا يا ذا القرنين } أي قال مترجمهم وفي مصحف ابن مسعود قال " الذين من دونهم " . { إن يأجوج ومأجوج } قبيلتان من ولد يافث بن نوح ، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل . وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف . وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث . { مفسدون في الأرض } أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع . قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه ، وقيل كانوا يأكلون الناس . { فهل نجعل لك خرجا } نخرجه من أموالنا . وقرأ حمزة والكسائي " خراجاً " وكلاهما واحد كالنول والنوال . وقيل الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر . { على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً } يحجز دون خروجهم علينا وقد ضمه من ضم " السُّدَيْن " غير حمزة والكسائي .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا} (94)

والضمير في { قالوا } : للقوم الذين من دون السدين ، و { يأجوج ومأجوج } : قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعاً كثيرة ، اختلف الناس في عددها ، فاختصرت ذكره لعدم الصحة ، وفي خلقهم تشويه : منهم المفرط الطول ، ومنهم مفرط القصر ، على قدر الشبر ، وأقل ، وأكثر ، ومنهم صنف : عظام الآذان ، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعراء ، ُيَصِّيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه ، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده «يأجوج ومأجوج » بالهمز وقرأ الباقون : «ياجوج وماجوج » بغير همزة فأما من همز ، فاختلف : فقالت فرقة : هو أعجمي علتاه في منع الصرف : العجمة والتأنيث ، وقالت فرقة : هو معرب من أجج وأج ، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث ، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين ، وإما أن يسهل من الهمز ، وقرأ رؤبة بن العجاج : «آجوج ومأجوج » بهمزة بدل الياء ، واختلف الناس في «إفسادهم » الذي وصفوهم به ، فقال سعيد بن عبد العزيز : «إفسادهم » : أكل بني آدم ، وقالت فرقة «إفسادهم » إنما عندهم توقعاً ، أي سيفسدون ، فطلبوا وجه التحرز منهم ، وقالت فرقة : «إفسادهم » هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، وهذا أظهر الأقوال ، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها ، وقولهم { فهل نجعل لك خرجاً } استفهام على جهة حسن الأدب ، و «الخرج » : المجبي ، وهو الخراج ، وقال فوم : الخرج : المال يخرج مرة ، والخراج المجبي المتكرر ، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد ، قال ابن عباس { خرجاً } : أجراً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «خرجاً » وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً » وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر { يأجوج ومأجوج } أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها ، ونحو هذا مما لم يصح ، وروي أيضاً أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف ، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف ، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا ، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم ، وأخبارهم تضيق بها الصحف ، فاختصرتها لضعف صحتها .