{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ثم فسر تلك الملة بقوله : { مَا كَانَ لَنَا } أي : ما ينبغي ولا يليق بنا { أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } بل نفرد الله بالتوحيد ، ونخلص له الدين والعبادة .
{ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } أي : هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا ، وعلى من هداه الله كما هدانا ، فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام والدين القويم ، فمن قبله وانقاد له فهو حظه ، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فلذلك تأتيهم المنة والإحسان ، فلا يقبلونها ولا يقومون لله بحقه ، وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى ، فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها ، كلها من فضل الله وإحسانه ، حيث منَّ عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائه ، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما ، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت .
ولما كان تركه لملة هؤلاء القوم ، يقتضى دخوله في ملة قوم آخرين ، تراه يصرح بالملة التي اتبعها فيقولك { واتبعت مِلَّةَ آبآئي } الكرام المؤمنين بوحدانية الله وبالآخرة وما فيها من حساب وجزاء .
{ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } وسماهم آباء جميعا ، لأن الأجداد آباء ، وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب ، لكون إبراهيم هو أصل تلك الملة التي اتبعها ، ثم تلقاها عنه إسحاق ، ثم تلقاها عن إسحاق يعقوب - عليهم السلام - .
وفى هذه الجملة الكريمة ، بيان منه - عليه السلام - لرفيقيه في السجن ، بأنه من سلسلة كريمة ، كلها أنبياء ، فحصل له بذلك الشرف الذي ليس بعده شرف ، وقوله { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ } تنزه عن الشرك بأبلغ وجه .
أى : ما صح وما استقام لنا أن نشرك بالله - تعالى - أى شئ من الإِشراك ، فنحن أهل بيت النبوة الذين عصمهم الله - تعالى - عن ذلك .
و " من " في قوله " من شئ " لتأكيد النفى وتعميمه . أى : ما كان لنا أهل هذا البيت الكريم أن نشرك بالله شيئا من الإِشراك ، قليلا ذلك الشئ أو حقيرا .
وقوله { ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس . . . } اعتراف منه - عليه السلام - برعاية الله - تعالى - له ولآبائه .
واسم الإِشارة . يعود إلى الإيمان بالله - تعالى - المدلول عليه بنفى الشرك .
أى : ذلك الإِخلاص لله - تعالى - في العبادة ، كائن من فضله - سبحانه - علينا معاشر هذا البيت ، وعلى غيرنا من الناس ، الذين هداهم إلى الإِيمان الحق .
وقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } إنصاف للقلة الشاكرة لله - تعالى - .
أى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله - تعالى - على نعمه الجزيلة وآلائه التي لا تحصى .
ذكر آباءه تعليماً بفضلهم ، وإظهاراً لسابقية الصلاح فيه ، وأنه متسلسل من آبائه ، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علّمه ربّه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس : « يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيء ابن نبيء ابن نبيء ابن نبيء » . ومثل هذه السلسلة في النبوءة لم يجتمع لأحد غير يوسف عليه السّلام إذا كان المراد بالنبوءة أكملها وهو الرسالة ، أو إذا كان إخوة يوسف عليه السّلام غير أنبياء على رأي فريق من العلماء .
وأراد باتّباع ملّة آبائه اتباعَها في أصولها قبل أن يعطى النبوءة إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد ؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه ، كقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً } إلى قوله { أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه } [ سورة الشورى : 13 ] .
وذكر السلف الصالح في الحقّ يزيد دليل الحقّ تمكّناً ، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم . كما في قوله الآتي : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم } [ سورة يوسف : 40 ] .
وجملة { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } في قوة البيان لما اقتضته جملة { واتّبعتُ ملة آبائي } من كون التوْحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافه بين الأمم ، وعرّفهم بها لنفسه في هذه الفرصة . ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف ، كما تقدم في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } في سورة آل عمران ( 79 ) ، وعند قوله تعالى : { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ } في آخر سورة العقود ( 116 ) .
و { من } في قوله : { مِن شيء } مزيدة لتأكيد النفي . وأدخلت على المقصود بالنفي .
وجملة { ذلك من فضل الله علينا } زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل .
وقوله : { وعلى الناس } أي الذين يتبعونهم ، وهو المقصود من الترغيب بالجملة .
وأتَى بالاستدراك بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } للتصريح بأن حال المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله ، لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونَهم إليه خير وإنقاذ لهم من الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.