قوله تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } ، قال بعضهم : الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام . والوعد كان من أبيه ، وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم ، فقال له إبراهيم سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت . وقال بعضهم الهاء راجعة إلى الأب ، وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه . وهو قوله : { سأستغفر لك ربي } . يدل عليه قراءة الحسن : وعدها أباه ، بالباء الموحدة . والدليل على أن الوعد من إبراهيم ، وكان الاستغفار في حال شرك الأب ، قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } ، إلى أن قال : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة -4 ] فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار ، وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم . { فلما تبين له أنه عدو لله } ، لموته عل الكفر ، { تبرأ منه } ، وقيل : فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي : يتبرأ منه ، وذلك ما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ ! فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم عليه السلام : يا ربي إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال يا إبراهيم : ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذبح ملتطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " وفي رواية : يتبرأ منه يومئذ . قوله تعالى : { إن إبراهيم لأواه حليم } ، اختلفوا في معنى الأواه ، جاء في الحديث : { إن الأواه الخاشع المتضرع } . وقال عبد الله بن مسعود : الأواه الدعاء . وعن ابن عباس قال : هو المؤمن التواب . وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد الله . وقال مجاهد : الأواه الموقن . وقال عكرمة : هو المستيقن بلغة الحبشة . وقال كعب الأحبار : هو الذي يكثر التأوه ، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول : آه من النار ، قبل أن لا ينفع آه . وقيل : هو الذي يتأوه من الذنوب . وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر لله تعالى . وعن سعيد بن جبير قال : الأواه المسبح . وروي عنه : الأواه : المعلم للخير . وقال النخعي : هو الفقيه . وقال عطاء : هو الراجع عن كل ما يكره الله . وقال أيضا : هو الخائف من النار . وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا . يريد أن يكون تضرعه يقينا ولزوما للطاعة . قال الزجاج : قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه . وأصله : من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء ، والفعل منه أوه وتأوه ، والحليم الصفوح عمن سبه أو ناله بالمكروه ، كما قال لأبيه ، عند وعيده ، وقوله { لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي } [ مريم -46 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الحليم السيد .
وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه ، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه ، ويوالوا من والاه اللّه ، ويعادوا من عاداه اللّه ، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك ، مناقض له ، ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه { عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ْ } في قوله { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ } وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه .
فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه ، سيموت على الكفر ، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير { تَبَرَّأَ مِنْهُ ْ } موافقة لربه وتأدبا معه .
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ ْ } أي : رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور ، كثير الذكر والدعاء ، والاستغفار والإنابة إلى ربه .
{ حَلِيمٌ ْ } أي : ذو رحمة بالخلق ، وصفح عما يصدر منهم إليه ، من الزلات ، لا يستفزه جهل الجاهلين ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه ، فأبوه قال له : { لَأَرْجُمَنَّكَ ْ } وهو يقول له : { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ْ }
فعليكم أن تقتدوا به ، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ْ } كما نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها ، ولهذا قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ
ثم بين - سبحانه - السبب الذي حمل إبراهيم على الاستغفار لأبيه ، ثم على ترك هذا الاستغفار فقال : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } .
قال القرطبى : روى النسائى عن على بن أبى طالب قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان . فقلت : أتستغفر لهما وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفروا إبراهيم لأبيه . فأتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فنزلت { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } الآية .
والمعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم ، لأن استغفاره له إنما كان بسبب وعد صدر له بذلك . فلما أصر " آزر " أبو إبراهيم على كفره ، ومات مشركا بالله تبرأ إبراهيم ومن عمله .
والمراد هذا الوعد ما جاء في القرآن من قوله له : { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } وقوله : { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان الداعى الذي دعا إبراهيم إلى الاستغفار لأبيه قبل التبين .
أى : إن إبراهيم لكثير التأوه والتوجع من خشية الله ، وكثير الحلم والصفح عمن آذاه .
قال الآلوسى : قوله { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } أى لكثير التأوه ، وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين . . وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة . ورقة القلب . وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهما " عن عبد الله بن شداد ، قال رجل : يا رسول الله ما الأواه ؟ قال : " الخاشع المتضرع الكثير الدعاء " " .
ويؤخذ من هاتين الآيتين ، أنه لا يجوز لمسلم أن يستغفر لمشكر بعد موته على الشكر مهما بلغت درجة قرابته له .
معطوفة على جملة { ما كان للنبيء } [ التوبة : 113 ] الخ . وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله : { ولو كانوا أولي قربى } [ التوبة : 113 ] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل . وهذه من مسألة ( أن شرع من قبلنا شرع لنا ) فلا جرم ما كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضاً بين الآيتين ، فلذلك تصدّى القرآن للجواب عنه . وقد تقدم آنفاً ما روي أن هذه سبب نزول الآية .
والموعدة : اسم للوعد . والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة ، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له . فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان ، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه متردداً في عبادة الأصنام لما قال له : { واهجرني ملياً } [ مريم : 46 ] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له ، وإما بعد أن مات على الشرك .
والتبرؤ : تفعل من برىء من كذا إذا تنزه عنه ، فالتبرؤ مبالغة في البراءة .
وجملة : { إن إبراهيم لأواه حليم } استئنافٌ ثَناءٌ على إبراهيم . و { أواه } فُسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار ، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم .
ولفظ { أواه } مثالُ مبالغة : الذي يكثر قول أوّهْ بلغاته الثلاثَ عشرة التي عدها في « القاموس » ، وأشهَرُها أوَّهْ بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة . قال المرادي في « شرح التسهيل » : وهذه أشهر لغاتها . وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع ، لكن الوصف ب { أواه } كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يُوصف به من ليس به وَجع . والفعل المشتق منه ( أواه ) حقهُ أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي . وقد اختلف في استعمال فعللٍ ثلاثي له ، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة .
وإتباع ( لأواه ) بوصف ( حليم ) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده .
والحليم : صاحب الحلم . والحلم بكسر الحاء : صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان . فهو صفة تقتضي هذه الأمور ، ويجمعها عدم القسوة . ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول .