اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ} (114)

قوله : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } .

في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ : أحدها : أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه .

وثانيها : أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات ، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عليه الصلاة والسلام - ، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم ؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل ، وأقوى .

وثالثها : أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي : قليل الغضب ، وبكونه أوهاً ، أي : كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس ، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً ؛ فكأنه قيل : إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره ، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر ، فمنع غيره أولى .

قوله : " وَعَدَهَآ إِيَّاهُ " . اختلف في الضمير المرفوعِ ، والمنصوبِ المنفصل ، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على " إبراهيم " ، والمنصُوب على " أبيه " ، يعني : أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له ، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ ، وحماد الرَّاوية{[18189]} . وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ " وعدهَا أباهُ " بالباءِ الموحَّدةِ . وقيل : المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل " إبراهيم " . وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ ؛ فذلك طمع في إيمانه .

فصل

دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه ، لقوله : { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] وقوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب } [ إبراهيم : 41 ] وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] وقال أيضاً { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ، والاستغفار للكافر لا يجوز .

فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ؛ فلذا استغفر لهُ ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله ، تبرَّأ منه . وقيل : إنَّ الواعدَ " إبراهيم " وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران :

الأول : أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام ، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب ، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة .

والثاني : أنَّ من النَّاس من حمل قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق ، قالوا : ويدل عليه قوله : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } [ التوبة : 84 ] .

فصل

اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ . فقيل : بالإصْرارِ والموت وقيل : بالإصْرارِ وحده . وقيل : بالوحي . فكأنه تعالى يقولُ : لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه ؛ فكونوا كذلك ، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله : { اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] . قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } . الأوَّاهُ : الكثيرُ التأوه ، وهو من يقولُ : أوَّاه ، وقيل : من يقولُ : أوَّهْ ، وهو أنْسَبُ ؛ لأنَّ " أوه " بمعنى : أتوجع ، ف " الأوَّاهُ " : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك ، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً ؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً ، فقال : يقال : آهَ يَئُوهُ ، ك " قَامَ يقُومُ ، " أوْهاً " .

وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يقال من " أوَّهْ " بمعنى : أتوَجَّعُ ، فعلٌ ثلاثي ، إنما يقال : أوَّه تأويهاً ، وتأوَّه تأوهاً ؛ قال الراجز : [ الرجز ]

فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ{[18190]} *** . . .

وقال المثقبُ العَبْدِيُّ : [ الوافر ]

إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ *** تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ{[18191]}

وقال الزمخشريُّ : " أوَّاه : فعَّال ، مِنْ أوَّهْ ، ك : " لئَّالٍ " من اللُّؤلؤ ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه " .

قال أبُو حيان " وتشبيه " أوَّاه " مِنْ " أوَّهْ " ك " لَئّال " من اللؤلؤ ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ مادة " أوَّهْ " موجودةٌ في صورة " أوَّاه " ، ومادة " لؤلؤ " مفقودةٌ في " لَئّال " ؛ لاختلاف التركيب إذ " لَئّال " ثلاثي ، و " لؤلؤ " رباعيّ ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية " .

قال شهابُ الدِّين : " لَئّال " ، و " لؤلؤ " كلاهما من الرُّباعي المكرر ، أي : إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا ، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في " لَئّال " فأدغمت أولاهما في الأخرى ، وفُرق بينهما في " لؤلؤ " وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام : " أوْه عن الرِّبا " كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء ، وربَّما قلبُوا الواو ألفاً فقالوا : آهِ من كذا ، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا " أوّهْ " وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا : " أوّ " وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول " أوَّهْ " .

وقال الجوهريُّ : بعضهم يقول " آوَّه " بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية ، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا " أوَّتَاهُ " بمدِّ وبغير مدّ .

فصل

قال عليه الصلاة والسلام : " الأوَّاه : الخاشع المُتضرِّع " {[18192]} وعن عمر : " الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوَّاه ، فقال : " الدعاء " {[18193]} ويروى " أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما غيَّر لونه ؛ فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ " فقيل يا رسُول الله ، وما الأواهةُ ؟ قال : " الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ " {[18194]} .

وقيل : معنى كون إبراهيم أوَّاهاً ، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً ، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ . وعن عبَّاسٍ : الأوَّاه ، المؤمن التَّواب{[18195]} .

وقال عطاءٌ وعكرمةُ : هو الموقن{[18196]} . وقال مجاهدٌ والنخعيُّ : هو الفقيه{[18197]} . وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب : هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة{[18198]} .

وقال أبُو ذرٍّ : هو المتأوه ؛ لأنه كان يقول " آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ " {[18199]} . و " الحَلِيمُ " معلوم .

وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا ؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف ، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ ، فأنتم بهذا المعنى أولى .


[18189]:ينظر: الكشاف 2/315، الدر المصون 3/508.
[18190]:ينظر: الطبري 14/535، الدر المصون 3/508.
[18191]:ينظر: مجاز القرآن 1/270، طبقات فحول الشعراء 1/273، جامع البيان 14/354، الخصائص 3/38، ابن يعيش 4/39، معاني الزجاج 2/474، زاد المسير 3/510، التهذيب 6/80 اللسان: أوه، المفضليات 586، الدر المصون 3/508.
[18192]:أخرجه ابن عساكر (2/76) والطبري (6/498).
[18193]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/332).
[18194]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/167).
[18195]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/497) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/509) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
[18196]:أخرجه الطبري (6/496) عن ابن عباس وعطاء وعكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/509-510) وعزاه إلى ابن جرير وأبي الشيخ عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن مجاهد.
[18197]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/498) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/510) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
[18198]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/497).
[18199]:أخرجه الطبري (6/498).