قوله تعالى : { يجادلونك في الحق } ، أي : في القتال .
قوله تعالى : { بعدما تبين } ، وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعدما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله ، وتبين صدقك في الوعد .
قوله تعالى : { كأنما يساقون إلى الموت } لشدة كراهيتهم القتال .
قوله تعالى : { وهم ينظرون } ، فيه تقديم وتأخير تقديره : وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، يجادلونك في الحق بعدما تبين . قال ابن زيد : هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون .
فحين تبين لهم أن ذلك واقع ، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ويكرهون لقاء عدوهم ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .
والحال أن هذا لا ينبغي منهم ، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق ، ومما أمر اللّه به ورضيه ، . فبهذه الحال ليس للجدال محل [ فيها ]{[337]} لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر ، . فأما إذا وضح وبان ، فليس إلا الانقياد والإذعان .
هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء ، ولا كرهوا لقاء عدوهم ، . وكذلك الذين عاتبهم اللّه ، انقادوا للجهاد أشد الانقياد ، وثبتهم اللّه ، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها .
وقوله - تعالى - : { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال ، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع .
والمراد بقوله { يُجَادِلُونَكَ } مجادلتهم للنبى صلى الله عليه وسلم في شأن القتال وقولهم له : ما كان خروجنا إلا للعير ، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له .
والضمير يعود للفريق الذي كان كارهاً للقتال .
والمراد بالحق الذي جادلوا فيه : أمر القتال الذي حضهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يعدوا أنفسهم له .
وقوله : { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } متعلق : { يُجَادِلُونَكَ } و { مَا } مصدرية والضمير في الفعل { تَبَيَّنَ } يعود على الحق .
والمراد بتبينه : إعلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو النفير ، أى : على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير ، أى : الإِبل الحاملة لأموال المشركين .
والمعنى : يجادلك بعض أصحابك - يا محمد - { فِي الحق } أي في أمر القتال { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } أى ، بعدما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون حليفهم ، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقاً لوعد الله الذي وعد بإحدى الطائفتين .
وقوله : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } أى : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، ومشاهد لموجباته .
والجملة في محل نصب على الحالية من الضمير في قوله : { لَكَارِهُونَ } .
وفى هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال بسبب قلة عددهم وعددهم .
وقوله : { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } زيادة في لومهم ، لأن الجدال في الحق بعد تنبينه أقبح من الجدال فيه قبل ظهوره .
{ يجادلونك في الحق } في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه . { بعد ما تبيّن } لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بأعلام الرسول عليه الصلاة والسلام . { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم فرسان ، وفيه انتماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم .
جملة { يجادلونك } حال من { فريقاً } فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع . وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها ، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى : { يجادلنا } من قوله : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يُجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] إذ قال { يجادلنا } ولم يقل « جادلنا » .
وقوله : { بعْدَ ما تبيّنَ } لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص ، وهو الخروج للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبيّن هو بيّنٌ في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عَرَباً أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بيّناً أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا اختاروا العير ، فكان ذلك كافياً في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة ، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوضِ شوكتهم بنصر بدر ، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته ، ومَن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائِه عليه .
ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر ، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعدَ أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لكَ أو لأخيك أو للذئب . فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تَمَعّر وجهه وقال « مالَكَ ولها معها حذاؤها وسقاؤها تَشرب الماءَ وترعَى الشجرَ حتى يلقاها ربها » وروى مالك ، في « الموطأ » ، أن أبا هريرة مرّ بقومٍ محرمين فاستفتوه في لَحْم صيد وجدوا أناساً أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عُمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بمَ أفتيتَهم قال : أفتيتهم بأكله فقال : « لو أفتيتهم بغير ذلك لأوْجَعْتُك » .
وجملة : { كأنما يساقون إلى الموت } في موضع الحال من الضمير المرفوع في { يجادلونك } أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت ، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر ، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سَبُع في قوله :
وكما تخيل ، تأبط شراً الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل :
فَخَالطَ سَهْلَ الأرض لم يكدح الصفا *** به كَدْحةً والموتُ خزيانُ يَنظر
فقوله تعالى : { كأنما يساقون إلى الموت } تشبيه لحالهم ، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين ، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت .
وهذا التفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العَدد ، وهم في قلة ، إرْجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون ، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة : { وهم ينظرون } أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفاً بالتقييد .
وجملة : { وهم ينظرون } حال من ضمير { يساقون } ومفعول { ينظرون } محذوف دل عليه قوله : { إلى الموت } أي : وهم ينظرون الموتَ ، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظوراً إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يَراه ، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل ، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن عُلْبَةَ :
وفي عكسه في المسرة قوله تعالى : { وأغرقنا آل فرعون وأنتُم تنظرون } [ البقرة : 50 ]