البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ} (6)

وجواب القسم { يجادلونك } ، والتقدير والله الذي أخرجك من بيتك يجادلونك في الحق قاله أبو عبيدة وكان ضعيفاً في علم النحو ، وقال الكرماني هذا سهو ، وقال ابن الأنباري الكاف ليست من حروف القسم انتهى .

وفيه أيضاً أن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيد ولا بدّ منهما في مثل هذا على مذهب البصريين أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين ، أما خلوّه عنهما أو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون .

القول الثاني أن الكاف بمعنى إذ وما زائدة تقديره أذكر إذ أخرجك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أن الكاف تكون بمعنى إذ في لسان العرب ولم يثبت أن ما تزاد بعد هذا غير الشرطيّة وكذلك لا تزاد ما ادعى أنه بمعناها ، القول الثالث الكاف بمعنى على وما بمعنى الذي تقديره امض على الذي أخرجك ربك من بيتك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أنّ الكاف تكون بمعنى على ولأنه يحتاج الموصول إلى عائد وهو لا يجوز أن يحذف في مثل هذا التركيب .

القول الرابع قال عكرمة : التقدير { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } كما أخرجك في الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لهم ، القول الخامس قال الكسائي وغيره كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودّون غير ذات الشوكة من بعدما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون ، قال ابن عطية والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلةً لكراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهة وكذا وقع التشبيه في المعنى وقائل هذا المقالة يقول إنّ المجادلين هم المشركون .

القول السادس قال الفراء : التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك انتهى .

قال ابن عطية : والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته ثم كانت الخيرة في القصتين مما صنع الله وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله { يجادلونك } كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونك في الكفار منصوص ، قال ابن عطية : فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى .

ونعني بالقولين قول الفراء وقول الكسائي وقد كثر الكلام في هاتين المقالتين ولا يظهران ولا يلتئمان من حيث دلالة العاطف .

القول السابع قال الأخفش : الكاف نعت لحقاً والتقدير هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك ، قال ابن عطية والمعنى على هذا التأويل كما زاد لا يتناسق .

القول الثامن أن الكاف في موضع رفع والتقدير { كما أخرجك ربك } فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر .

قال ابن عطية : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر .

القول التاسع قال الزجاج الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لله ثباتاً كما أخرجك ربك وهذا الفعل أخذه الزمخشري وحسنه .

فقال ينتصب على أنه صفة مصدر للفعل المقدّر في قوله { الأنفال لله والرسول } أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون انتهى ، وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين المشبّه والمشبّه به ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة .

القول العاشر أن الكاف في موضع رفع والتقدير { لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } هذا وعد حقّ { كما أخرجك } وهذا في حذف مبتدأ وخبر ولو صرّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن .

القول الحادي عشر أنّ الكاف في موضع رفع أيضاً والمعنى { وأصلحوا ذات بينكم } ذلكم خير لكم { كما أخرجك } فالكاف نعت لخبر ابتدأ محذوف وهذا أيضاً فيه حذف وطول فصل بين قوله { وأصلحوا } وبين { كما أخرجك } .

القول الثاني عشر أنه شبه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال : يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل القراءة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب وهذا النهي قاله هذا القائل وحسّنه الزمخشري هو ما فسر به ابن عطية قول الفراء بقوله هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال إلى آخر كلامه .

القول الثالث عشر أن المعنى قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقاً .

القول الرابع عشر أنّ التشبيه وقع بين إخراجين أي إخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كإخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر .

القول الخامس عشر الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً فأمددتك وقويْتُك وأزحت عللك فخذْهم الآن فعاقبهم بكذا وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك ما شكرتني عليه فتقدير الآية { كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق } وغشاكم النعاس أمنه منه يعني به إياه ومن معه وأنزل من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان كأنه يقول قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وملخّص هذا القول الطويل أن { كما أخرجك } يتعلق بقوله { فاضربوا } وفيه من الفصل والبعد ما لا خفاء به وقد انتهى ذكر هذه الأقوال الخمسة عشر التي وقفنا عليها .

ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلّب في إنشاء أفانينه وزاول الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من هذه الأقوال وإن كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يحتط بلفظ الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرّف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز .

وقبل تسطير هذه الأقوال هنا وقعت على جملة منها فلم يلق لخاطري منها شيء فرأيت في النوم أنني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } فقلت له ما مرّ بي شيء مشكل مثل هذا ولعل ثم محذوفاً يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شيء طائل ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره ، والتقدير فكأنه قيل { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } أي بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم لخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } الآيات ، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل ، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيها معنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } وأنشدوا :

لا تشتم الناس كما لا تشتم *** أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع الله يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك الله يدخلك الجنة فكان المعنى إن خرجت لإعزاز دين الله وقتل أعدائه نصرك الله وأمدّك بالملائكة والواو في { وإن فريقاً } واو الحال والظاهر أن { من بيتك } هو مقام سكناه وقيل المدينة لأنها مهاجره ومختصة به ، وقيل مكة وفيه بعد لأن الظاهر أن هذا إخبار عن خروجه إلى بدر فصرفه إلى الخروج من مكة ليس بظاهر ومفعول { لكارهون } هو الخروج أي لكارهون الخروج معك وكراهتهم ذلك إما لنفرة الطبع أو لأنهم لم يستنفروا أو العدول من العير إلى النفير لما في ذلك من قوّة أخذ الأموال ولما في هذا من القتل والقتال ، أو لترك مكة وديارهم وأموالهم أقوال أربعة ، والظاهر أن ضمير الرفع في { يجادلونك } عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام ، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام .

وقرأ عبد الله بعدما بين بضم الباء من غير تاء وفي قوله { بعدما تبين } إنكار عظيم عليهم لأنّ من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتباً أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار ثم شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يساريهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق على الصفا إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها ، وقيل كان خوفهم لقلة العدد وأنهم كانوا رجالة ، وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتاب السير وقد لخص منها الزمخشري وابن عطية ما يوقف عليه في كتابيهما .