بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ} (6)

قوله تعالى : { يجادلونك فِي الحق } ؛ وكان هذا بعد خروجه إلى بدر ، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة . وفي تلك السنة ، حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، وكانت غزوة بدر في شهر رمضان ، وكانت قصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام ، فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلاً من تجار قريش ، ويقال أكثر من ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « هذه عِيرُ أبي سفيان قَدْ أَقْبَلَتْ ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا ، فَلَعَلَّ الله أنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا ، وَتَتَقَوُّوا بِهَا عَلَى عَدُوِّكُمْ » . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من جهينة ، حليفين من الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير ، فخرجا وأتيا وادي الصفراء ، وهي منزل على طريق الشام ، فقالا لأهل الصفراء : هل أحسستم من أحد ؟ قالوا : لا . فخرجا فمرا بجاريتين متلازمتين ، فقالت إحداهما للأخرى : اقضيني درهماً لي عليك . فقالت : لا والله ما عندي اليوم ، ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا ، يقدمون غداً فأعمل لهم ، وأقضيك درهمك . فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان فرجعا . فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء ، فقال لأهل الصفراء : هل أحسستم من أحد ؟ قالوا : لا إلاَّ رجلين نزلا عند هذا الكثيب ، ثم ركبا . فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع ، فرأى هناك بعر الإبل فأخذ بعرة ففتها ، فوجد فيها النوى فقال : علائق أهل يثرب واللات والعزى ؛ فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، يخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد اعترض لعيركم فأدركوها .

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب ، رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في منامها ، كأنّ راكباً أقبل على بعير أورق ومعه راية سوداء ، فدخل المسجد الحرام ، ثم نادى بأعلى صوته : يا آل فلان ويا آل فلان ، انفروا إلى مصارعكم إلى ثلاث ، ثم ارتقى على أبي قبيس ونادى ثلاث مرات . ثم قلع صخرة من أبي قبيس فرماها على أهل مكة ، فتكسرت فلم يبق أحد من قريش إلا أصابته فلقة منها . فلما أصبحت ، قصت رؤياها على أخيها العباس وقالت : إني اخاف أن يصيب قومك سوء .

فاغتم العباس لما سمع منها ، وذكر العباس ذلك للوليد بن عتبة ، وكان صديقاً له ، فذكر الوليد ذلك لأبيه عتبة بن ربيعة ، فذكر ذلك عتبة لأبي جهل بن هشام . وفشا ذلك الحديث في قريش ، فخرج العباس إلى المسجد وقد اجتمع فيه صناديد قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل : يا أبا الفضل ، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ أما رضيتم أن قلتم : منا نبي ، حتى قلتم : منا نبية ؟ فوالله لننتظرن بكم ثلاثاً ، فإن جاء تأويل رؤياها ؛ وإلا كتبنا عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال له العباس : يا كذاب ، يا مصفر الاست ، بالله أنت أولى بالكذب واللؤم منا . فلما كان اليوم الثالث ، جاء ضمضم ، وقد شق قميصه ، وجزع أذن ناقته ، وجعل التراب على رأسه ، وهو ينادي : يا معشر قريش ، الغوث الغوث ، أدركوا عيركم ، فقد عرض لها أهل محمد . فاجتمعوا وخرجوا ، وهم كارهون مشفقون من رؤيا عاتكة ، ومعهم القينات والدفوف بطراً ورياء ؛ كما قال الله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ الأنفال : 47 ] . وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم . وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج ، فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، وخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها ، ومعهم ثلاثة أفراس ويقال فرسان ، فخرجوا بغير قوت ولا سلاح ، لا يرون أنه يكون ثمة قتال . فلما نزلوا بالروحاء ، نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم ، وقال : يا محمد ، إن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين ، إما العير وإما العسكر . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم ، فشقّ ذلك على بعضهم ، وقالوا : يا رسول الله ، هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثمَّ قتال فنخرج معنا سلاحنا وقوسنا ، إنما خرجنا نريد العير ، والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « أَشِيرُوا عَلَيَّ » . فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « أَشِيرُوا عَلَيَّ » . وكان يحب أن يتكلم الأنصار ، فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله امض حيث شئت ، وأقم حيث شئت . فوالله لئن أمرتنا أن نخوض البحر لنخوضنه ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ونحن معكما متَّبعون ، فنزل : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } ، يعني القتال { يجادلونك فِي الحق } ، يخاصمونك في الحرب .

{ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } ، يعني بعد ما تبيَّن لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } ، يعني ينظرون إلى القتل .