قوله تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي : وطأنا . قال ابن عباس : جعلنا . وقيل : بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت مبوأ إبراهيم . وقال مقاتل بن حيان : هيأنا . وإنما ذكرنا مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان ، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت على الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابةً بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه . قوله تعالى : { أن لا تشرك بي شيئاً } أي : عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له : لا تشرك بي شيئاً ، { وطهر بيتي للطائفين } يعني : الذين يطوفون بالبيت ، { والقائمين } أي : المقيمين ، { والركع السجود } أي : المصلين .
{ 26 - 29 } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه ، وهو خليل الرحمن ، فقال : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أي : هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسما من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لا يشرك به شيئا ، بأن يخلص لله أعماله ، ويبنيه على اسم الله .
{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي : من الشرك والمعاصي ، ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه ، لشرفه ، وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر ، وقراءة ، وتعلم علم وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب ، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، أي : طهره لهؤلاء الفضلاء ، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته ، والتقرب إليه عند بيته ، فهؤلاء لهم الحق ، ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ، ويدخل في تطهيره ، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ، بالصلاة والطواف ، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة ، لاختصاصه بهذا البيت ، ثم الاعتكاف ، لاختصاصه بجنس المساجد .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال - تعالى - : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً . . . } .
وبوانا من التبوؤ بمعنى النزول فى المكان . يقال : بوأته منزلا أى : أنزلته فيه ، وهيأته له ، ومكنته منه .
والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام ، وأرشدناه إليه ، لكى يبنيه بأمرنا ، ليكون مثابة للناس وأمنا .
قال بعض العلماء : والمفسرون يقولون بوأه له ، واراه إياه ، بسبب ريح تسمى الخجوج ، كنست ما فوق الأساس : حتى ظهر الأساس الأول الذى كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه . . . وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم .
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ليبنيه فى محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله .
وظاهر قوله - تعالى - على لسان إبراهيم : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم . . . } يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه - أيضا - قوله هنا { مَكَانَ البيت } لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا .
و " أن " فى قوله - تعالى - : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } مفسرة ، والتفسير - كما يقول الآلوسى - باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة ، فكأنه قيل : أمرنا إبراهيم بالعبادة ، وذلك فيه معنى القول دون حروفه ، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ .
والمعنى : واذكر - أيها المخاطب - وقت أن هيأنا لإبراهيم - عليه السلام - مكان بيتنا الحرام ، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا ، وبإخلاص العبادة لنا ، كما أوصيناه - أيضا - بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات ، وأن يجعله مهيأ للطائفين به ، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة .
قال الشوكانى : والمراد بالقائمين فى قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين } المصلون . . .
وذكر { الركع السجود } بعده ، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة ، لأنهما لا يشرعان إلى فى البيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام ، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضى الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات .
{ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي واذكر إذ عيناه وجعلنا له مباءة . وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه . قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم . { أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } { أن } مفسرة ل { بوأنا } من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة ، أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ، وقرىء { يشرك } بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام { بيتي } بفتح الياء .
المعنى واذكر { إذ بوأنا } ، و «بوأ » هي تعدية باء بالتضعيف ، و «باء » معناه رجع فكأن المبوِّىء يرد المبوأ إلى المكان ، واستعملت اللفظة بمعنى سكن ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[8348]} [ الرمز : 74 ] وقال الشاعر :
كم من أخ لي صالح . . . بوأته بيديَّ لحدا{[8349]}
واللام في قوله تعالى : { لإبراهيم } قالت فرقة هي زائدة ، وقالت فرقة { بوأنا } نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا{[8350]} ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب { بوأنا } محذوفاً تقديره الناس أو العالمين ، ثم قال { لإبراهيم } بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا{[8351]} ، و { البيت } هو الكعبة ، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام ، ثم درس بالطوفان ، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً ، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم ، فرفع قواعده عليه . وقوله { أن لا تشرك } هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام ، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك ، وقرأ عكرمة «ألا يشرك » بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له ، قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن » في قراءة الجمهور مفسرة ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة{[8352]} ، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد ، وأنتم لم تفوا بل أشركتم ، وقالت فرقة : الخطاب من قوله { أن لا تشرك } لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح . وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك ، و «القائمون » ، هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة : أعظمها . وهي القيام والركوع والسجود .
عطف على جملة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } [ الحج : 25 ] عطف قصة على قصة . ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن المُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حتى أمر ببنائه ، والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحجّ .
و ( إذ ) اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدّر على ما هو متعارف في أمثاله . والتقدير : واذكر إذْ بوّأنا ، أي اذكر زمان بوّأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ، أي اذكر ذلك الوقت العظيم ، وعُرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدلّ عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر .
والتبوِئَة : الإسكان . وتقدم في قوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها } [ يوسف : 56 ] .
والمكان : الساحة من الأرض وموضع للكون فيه ، فهو فعل مشتق من الكون ، فتبوئته المكان : إذنُه بأن يتخذه مَباءة ، أي مقراً يبني فيه بيتاً ، فوقع بذكر { مكان } إيجاز في الكلام كأنه قيل : وإذْ أعطيناه مكاناً ليتخذ فيه بيتاً ، فقال : مكان البيت ، لأنّ هذا حكاية عن قصة معروفة لهم . وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن .
واللام في { لإبراهيم } لام العلة لأنّ { إبراهيم } مفعول أول ل { بوّأنا } الذي هو من باب أعطى ، فاللام مثلها في قولهم : شكرت لك ، أي شكرتك لأجلك . وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة .
و { البيت } معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر { مكان } حشواً . والمقصود أن يكون مأوى للدين ، أي معهداً لإقامة شعائر الدين .
فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعليماً بالدين فلذلك أعقب بحرف ( أنْ ) التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه . وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل مَعْلَماً للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركاً ، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس ، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } في [ سورة آل عمران : 96 ] .
وقوله تعالى : { وطهر بيتي } مؤذن بكلام مقدّر دلّ عليه { بوأنا لإبراهيم مكان البيت } . والمعنى : وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان ، وبعد أن بناه قلنا لا تُشرك بي شيئاً وطهّر بيتي .
وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت . والتطهير : تنزيهه عن كل خبيث معنىً كالشرك والفواحش وظلم الناس وبثّ الخصال الذميمة ، وحسّاً من الأقذار ونحوها ، أي أعدده طاهراً للطائفين والقائمين فيه .
والطواف : المشي حول الكعبة ، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة .
والمراد بالقائمين : الداعون تجاه الكعبة ، ومنه سمي مقام إبراهيم ، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعاً للدعاء . قال زيد بن عَمرو بن نُفيل :
عُذتُ مما عاذ به إبراهيمُ *** مستقبلَ الكعبة وهو قائم
والركّع : جمع راكع ، ووزن فُعّل يكثر جمعاً لفاعل وصفاً إذا كان صحيح اللام نحو : عُذّل وسُجّد .
والسجود : جمع سَاجد مثل : الرقود ، والقعود ، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مَصادر أفعالها .