قوله تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي : وطأنا . قال ابن عباس : جعلنا . وقيل : بينا قال الزجاج : جعلنا مكان البيت مبوأ إبراهيم . وقال مقاتل بن حيان : هيأنا . وإنما ذكرنا مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمان الطوفان ، ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت على الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابةً بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبني عليه . قوله تعالى : { أن لا تشرك بي شيئاً } أي : عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له : لا تشرك بي شيئاً ، { وطهر بيتي للطائفين } يعني : الذين يطوفون بالبيت ، { والقائمين } أي : المقيمين ، { والركع السجود } أي : المصلين .
{ 26 - 29 } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه ، وهو خليل الرحمن ، فقال : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أي : هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسما من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لا يشرك به شيئا ، بأن يخلص لله أعماله ، ويبنيه على اسم الله .
{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي : من الشرك والمعاصي ، ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه ، لشرفه ، وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر ، وقراءة ، وتعلم علم وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب ، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، أي : طهره لهؤلاء الفضلاء ، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته ، والتقرب إليه عند بيته ، فهؤلاء لهم الحق ، ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ، ويدخل في تطهيره ، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ، بالصلاة والطواف ، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة ، لاختصاصه بهذا البيت ، ثم الاعتكاف ، لاختصاصه بجنس المساجد .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال - تعالى - : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً . . . } .
وبوانا من التبوؤ بمعنى النزول فى المكان . يقال : بوأته منزلا أى : أنزلته فيه ، وهيأته له ، ومكنته منه .
والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام ، وأرشدناه إليه ، لكى يبنيه بأمرنا ، ليكون مثابة للناس وأمنا .
قال بعض العلماء : والمفسرون يقولون بوأه له ، واراه إياه ، بسبب ريح تسمى الخجوج ، كنست ما فوق الأساس : حتى ظهر الأساس الأول الذى كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه . . . وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم .
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ليبنيه فى محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله .
وظاهر قوله - تعالى - على لسان إبراهيم : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم . . . } يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه - أيضا - قوله هنا { مَكَانَ البيت } لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا .
و " أن " فى قوله - تعالى - : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } مفسرة ، والتفسير - كما يقول الآلوسى - باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة ، فكأنه قيل : أمرنا إبراهيم بالعبادة ، وذلك فيه معنى القول دون حروفه ، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ .
والمعنى : واذكر - أيها المخاطب - وقت أن هيأنا لإبراهيم - عليه السلام - مكان بيتنا الحرام ، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا ، وبإخلاص العبادة لنا ، كما أوصيناه - أيضا - بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات ، وأن يجعله مهيأ للطائفين به ، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة .
قال الشوكانى : والمراد بالقائمين فى قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين } المصلون . . .
وذكر { الركع السجود } بعده ، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة ، لأنهما لا يشرعان إلى فى البيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام ، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضى الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات .
{ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي واذكر إذ عيناه وجعلنا له مباءة . وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه . قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم . { أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } { أن } مفسرة ل { بوأنا } من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة ، أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ، وقرىء { يشرك } بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام { بيتي } بفتح الياء .
المعنى واذكر { إذ بوأنا } ، و «بوأ » هي تعدية باء بالتضعيف ، و «باء » معناه رجع فكأن المبوِّىء يرد المبوأ إلى المكان ، واستعملت اللفظة بمعنى سكن ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[8348]} [ الرمز : 74 ] وقال الشاعر :
كم من أخ لي صالح . . . بوأته بيديَّ لحدا{[8349]}
واللام في قوله تعالى : { لإبراهيم } قالت فرقة هي زائدة ، وقالت فرقة { بوأنا } نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا{[8350]} ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب { بوأنا } محذوفاً تقديره الناس أو العالمين ، ثم قال { لإبراهيم } بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا{[8351]} ، و { البيت } هو الكعبة ، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام ، ثم درس بالطوفان ، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً ، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم ، فرفع قواعده عليه . وقوله { أن لا تشرك } هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام ، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك ، وقرأ عكرمة «ألا يشرك » بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له ، قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن » في قراءة الجمهور مفسرة ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة{[8352]} ، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد ، وأنتم لم تفوا بل أشركتم ، وقالت فرقة : الخطاب من قوله { أن لا تشرك } لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح . وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك ، و «القائمون » ، هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة : أعظمها . وهي القيام والركوع والسجود .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُعْلِمَه عظيم ما ركب من قومه قريش خاصة دون غيرهم من سائر خلقه بعبادتهم في حرمه، والبيت الذي أمر إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم ببنائه وتطهيره من الآفات والرّيَب والشرك: واذكر يا محمد كيف ابتدأنا هذا البيت الذي يعبد قومك فيه غيري، إذ بوأنا لخليلنا إبراهيم، يعني بقوله:"بوأنا": وطّأنا له مكان البيت... ويعني بالبيت: الكعبة، "أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئا "في عبادتك إياي، "وَطَهّرْ بَيْتِيَ "الذي بنيته من عبادة الأوثان... عن مجاهد، في قوله: "وَطَهّرْ بَيْتِيَ" قال: من الشرك... عن عبيد بن عمير، قال: من الآفات والرّيب...
وقوله: "للطّائِفِينَ" يعني للطائفين به، "والقَائِمِينَ" بمعنى المصلين الذين هم قيام في صلاتهم...قال ابن زيد، في قوله: "والقائمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ" قال: القائم والراكع والساجد هو المصلي، والطائف هو الذي يطوف به. وقوله: "وَالرّكّعِ السّجُودِ" يقول: والركع السجود في صلاتهم حول البيت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
بوأنا أي: هيأنا له مكان البيت لينزل فيه، والتَّبْوِيَةُ: الإنزال...
{وطهر بيتي للطائفين} وادع الناس أيضا إلى ألا يشركوا بالله شيئا...
وجائز أن يكون قوله: {وطهر بيتي} من جميع الخبائث ومن كل أنواع الأذى من الخصومات والبياعات وغيرها. وذلك المسجد الحرام كغيره من المساجد يُطهر، ويُجنب جميع أنواع الأذى والخبث والفحش.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه وطأنا له مكان البيت، حكاه ابن عيسى. والثاني: معناه عرفناه مكان البيت بعلامة يستدل بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أصلحنا له مكانَ البيت وأسكنَّاه منه؛ وأرشدناه له، وهديناه إليه، وأَعنَّاه عليه،..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واذكر حين جعلنا {لإبراهيم مَكَانَ البيت} مباءة، أي: مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة...
فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم قلنا له: {لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ} من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك،... و«القائمون»، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة: أعظمها. وهي القيام والركوع والسجود...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
أضاف البيت إليه تعالى ليشرفه بالإضافة إليه.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
والأمر بالتطهير، لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه. واستدل به كثير ممن قال:"إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله"، كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت كم بينهما؟ قال:"أربعون سنة". وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم} الآية [آل عمران: 96، 97]، وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. وقال تعالى هاهنا: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} أي: ابْنه على اسمي وحدي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قال مجاهد وقتادة: من الشرك، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له. فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، {وَالْقَائِمِينَ} أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قال المبرد: كأنه قيل له: وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك: بي وحدني...
وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت أي: هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام الوقت الذي جعلنا فيه هذا البيت مباءة للناس يرجعون إليه للعبادة، والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام، ليتذكروا فيقلعوا عن غيهم و يرعووا إلى رشدهم، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطإ، وكبير ما اجترحوا من جرم بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم، وجعله الله قبلة للناس في الصلاة ومكانا للطواف حين أداء شعيرة الحج.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة. عرف الله مكانه لإبراهيم -عليه السلام- وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: ألا تشرك بي شيئا فهو بيت الله وحده دون سواه. وليطهره به من الحجيج، والقائمين فيه للصلاة: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) فهؤلاء هم الذين أنشى ء البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتبوِئَة: الإسكان. و {البيت} معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر {مكان} حشواً. والمقصود أن يكون مأوى للدين، أي معهداً لإقامة شعائر الدين...
وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل مَعْلَماً للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركاً، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس، لإعلان التوحيد... والطواف: المشي حول الكعبة، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذه الآية تتضمن بطريق التعريض توبيخ مشركي قريش على ما هم فيه من المفارقات والتناقضات، فبينما هم يدعون البنوة لإبراهيم، إذا بهم يصرون على الشرك الذي كان إبراهيم أعدى عدو له حتى تبرأ من أبيه وقومه من أجله، وبينما إبراهيم كان يحرص على تطهير البيت من كل رجس و خبث-بما في ذلك رجس الأوثان والأصنام، وخبث الأوساخ والأقذار-إذا بمشركي قريش ينتهكون حرمة البيت الحرام، ويملأونه بالأوثان والأصنام، وبينما إبراهيم كان يعد للعدة ليكون البيت مكانا مقدسا يحج إليه عباد الرحمن، الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان، من جميع الأقاليم والأوطان، إذا بمشركي قريش ينزلون به إلى عبادة الأوثان.
والخطاب في قوله تعالى هنا {لا تشرك بي شيئا} {وطهر بيتي} {وأذن في الناس بالحج} موجه لإبراهيم الخليل عليه السلام، وكأن كتاب الله يعيد على مسامع رسوله والمؤمنين نفس الخطاب الإلهي الذي تلقاه إبراهيم الخليل، يوم وكل الله إليه وإلى ابنه إسماعيل إقامة البيت الحرام، وإذا كان هذا الخطاب موجها بالأصالة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه موجه بالتبع إلى خاتم الأنبياء والرسل، مجدد ملة إبراهيم، الذي أمره الله بإعادة الحق إلى نصابه، عند تيسر أسبابه، وكأنما كان التذكير ببناء البيت الحرام، وبالحكمة التي من أجلها وضع للناس، تمهيدا لما ورد بعد ذلك في هذا الربع، من توجيه الخطاب إلى مشركي قريش ومن سلك مسلكهم، بقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
والجمع بين عبادة الأوثان وقول الزور هنا في قران واحد، والأمر باجتنابهما معا في آن واحد، مبني على ما يوجد بينهما من ارتباط وثيق، فالشرك في الحقيقة هو رأس الزور، لأن المشرك بالله يزعم زورا وبهتانا أن الوثن يستحق العبادة، ويشهد له بالقدرة على الضر والنفع وغيره من صفات الكمال، التي هي من صفات الله وحده دون سواه، وكل قول من أقوال الزور يلتقي مع الشرك في أنه كذب وباطل، وغير مطابق للحقيقة.
لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال: {ربنا ليقيموا الصلاة.. (37)} [إبراهيم]: كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة، الصلاة للإله الحق والرب الصدق، لذلك أمره أولا: {أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} والمراد: طهر هذا المكان من كل ما يشعر بالشرك، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله.
وهل كان يعقل أن يدخل إبراهيم- عليه السلام- في الشرك؟ بالطبع لا، وما أبعد إبراهيم عن الشرك، لكن حين يرسل الله رسولا، فإنه أول من يتلقى عن الله الأوامر ليبلغ أمته، فهو أول من يتلقى، وأول من ينفذ ليكون قدوة لقومه فيصدقونه ويثقوا به، لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنجوة عنه.
ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم): {يا أيها النبي اتق الله.. (1)} [الأحزاب]: وهل خرج محمد (صلى الله عليه وسلم) عن تقوى الله؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها، حتى يسهل علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه، ولا نرى غضاضة في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله...
إذن: قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أن لا تشرك بي شيئا} لا تعني تصور حدوث الشرك من إبراهيم، وقال {شيئا} ليشمل النهي كل أنواع الشرك، أيا كانت صورته: شجر، أو حجر، أو وثن، أو نجوم، أو كواكب.
ويؤكد هذا المعنى بقوله: {وطهر بيتي} والتطهير يعني: الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وطهارة حسية مما أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَطَهِّرْ بَيْتِي} طهارة كاملة بمعناها المادي الذي يستدعي النظافة من كل قذارة تسيء إلى جوّ التحليق في آفاق الطهارة الروحية التي تختزنها روحية العبادة وتخلقها داخل الإنسان، فإن الإسلام في كثير من تشريعاته يبتعد عن التجريد، ويعمل على إطلاق المعاني الروحية من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادة، ولذا، فإن الله شرّع الطهارة من الحدث والخبث، اللذين يمثلان القذارة المادية والمعنوية، كشرط لصحة الصلاة والطواف على سبيل الإلزام، واستحبّها لكثير من الأمور العبادية الأخرى، على سبيل الرخصة.. وهكذا أراد المسجد طاهراً في أرضه، كما أراد الإنسان فيه طاهراً في جسده وثيابه، لتعيش الطهارة الروحية في أجواء الطهارة المادية، ليتكامل المضمون الداخلي والشكل الخارجي {للطائفين} الذين يقصدون البيت للطواف حوله، بصفته الرمز المادي للتحرك في فلك رضى الله عبر احترام أوامره ونواهيه، في كل المجالات التي يطوف بها الإنسان في حياته، وعلى مستوى كل العلاقات التي يقيمها مع الناس من حوله، سواء من يتصل بهم وينتمي إليهم، أو من يتحرك في دوائرهم الفكرية والعملية، وفي كل الأماكن التي يتخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحركة لمشاريعه ولأوضاعه العامة والخاصة، ليكون ذلك كله مع الله في دائرة معينة يمثلها بيته، وله، في العبادة التي يخلص فيها الإنسان لربه تماماً كما هو الطواف بالبيت. {والقائمين} الذين يقومون لله في صلاتهم، كرمزٍ للقيام بين يديه في طاعتهم له في كل شيء، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها، وليخلصوا إليه الطاعة فيها وفي كل شيء، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الذين يتعبّدون له في ركوعهم وسجودهم، في ما يمثله الركوع والسجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده وانسحاقه أمامه بجبهته، كرمزٍ لانحناء كل حياته أمام إرادته، بعيداً عن الخضوع الكامل بكل أشكاله وبكل معانيه.