قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد } ، بالإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه . وقيل : أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه . { إن العهد كان مسؤولا } ، قال السدي : كان مطلوباً . وقيل : العهد يسأل عن صاحب العهد ، فيقال : فيم نقضت ، كالمؤودة تسأل فيم قتلت ؟
{ 34 } { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا }
وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم الذي فقد والده وهو صغير غير عارف بمصلحة نفسه ولا قائم بها أن أمر أولياءه بحفظه وحفظ ماله وإصلاحه وأن لا يقربوه { إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } من التجارة فيه وعدم تعريضه للأخطار ، والحرص على تنميته ، وذلك ممتد إلى أن { يَبْلُغَ } اليتيم { أَشُدَّهُ } أي : بلوغه وعقله ورشده ، فإذا بلغ أشده زالت عنه الولاية وصار ولي نفسه ودفع إليه ماله .
كما قال تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } الذي عاهدتم الله عليه والذي عاهدتم الخلق عليه . { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } أي : مسئولين عن الوفاء به وعدمه ، فإن وفيتم فلكم الثواب الجزيل وإن لم تفوا{[471]} فعليكم الإثم العظيم .
وبعد أن نهى - سبحانه - عن إتلاف النفوس عن طريق القتل والزنا ، أتبع ذلك بالنهى عن إتلاف الأموال التى هى قوام الحياة ، وبدأ - سبحانه - بالنهى عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن ، ثم ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان عند التعامل ، فقال - تعالى - :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
واليتيم : هو الصغير الذى مات أبوه مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة .
والخطاب فى قوله : { ولا تقربوا . . . } لأولياء اليتيم ، والأوصياء على ماله .
والأشد : قوة الإِنسان ، واشتعال حرارته ، ومن الشدة بمعنى القوة . يقال : شد النهار إذا ارتفع واكتمل ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع . أو هو جمع لا واحد له من لفظه ، أو جمع شدة كأنعم ونعمة .
أى : ولا تقربوا - أيها الأولياء على اليتيم - ماله الذى منحه الله إياه عن طريق الميراث أو غيره ، إلا بالطريقة التى هى أحسن الطرق ، والتى من شأنها أن تنفعه ، كالمحافظة عليه ، واستثماره له ، وإنفاقه فى الوجوه المشروعة .
واعلموا أن كل تصرف مع اليتيم أو فى ماله لا يقع فى تلك الدائرة - دائرة الأنفع والأحسن - فهو تصرف محظور ومنهى عنه ، وسيحاسبكم الله - تعالى - عليه .
وتعليق النهى بالقربان ، للمبالغة فى الزجر عن التصرف فى مال اليتيم ، إلا بالطريقة التى هى أحسن .
وقوله : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى : فإذا بلغ أشده فاقربوه ، لأن هذا المعنى يقتضى إباحة أكل الولى لمال اليتيم بعد بلوغه ، وإنما هو غاية لما يفهم من النهى ، فيكون المعنى : لا تقربوا مال اليتيم إلا بالطريقة التى هى أحسن ، واستمروا على ذلك حتى يبلغ أشده ، أى : حتى يصير بالغا عاقلا رشيدا ، فإذا ما صار كذلك ، فسلموا إليه ماله بأمانة واستعفاف عن التطلع إلى شئ منه .
هذا ، وقد أمرت شريعة الإِسلام ، بحسن رعاية اليتيم ، وبالمحافظة على حقوقه ، ونهت عن الإِساءة إليه ، بأى لون من ألوان الإِساءة .
قال - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ . . } وقال - سبحانه - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه الإِمام البخارى عن سهل بن سعد رضى الله عنه :
" أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا " وأشار بالسبابة والوسطى .
" وروى الشيخان عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " " .
ومن الحكم التى من أجلها أمر الاسلام بالعطف على اليتيم ونهى عن ظلمه ، أنه إنسان ضعيف فقد الأب الحانى ، والعائل والنصير منذ صغره . .
فإذا نشأ فى بيئة ترعاه وتكرمه . . شب محبا لمن حوله ، وللمجتمع الذى يعيش فيه .
وإذا نشأ فى بيئة تقهره وتذله وتظلمه . . نظر إلى من حوله ، وإلى المجتمع الذى يعيش فيه ، نظرة العدو إلى عدوه . .
وكأنه يقول لنفسه : إذا كان الناس لم يحسنوا إلى فى صغرى وفى حالة ضعفى ، فلماذا أحسن إليهم فى حال كبرى وقوتى ! ! وإذا كانوا قد حرمونى حقى الذى منحه الله لى فلماذا أعطيهم شيئا من خيرى وبرى ! ! .
هذه بعض الأسباب التى من أجلها أمر الإِسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه ، وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم .
وبعد أن نهى - سبحانه - عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن ، أمر بالوفاء بالعهود فقال : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } .
والعهد : ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كالوصية واليمين . وعهد الله : أوامره ونواهيه وعهد الناس : ما يتعاهدون عليه من معاملات وعقود وغير ذلك مما تقتضيه شئون حياتهم .
أى : وأوفوا بالعهود التى بينكم وبين الله - تعالى - ، والتى بينكم وبين الناس ، بأن تؤدوها كاملة غير منقوصة ، وأن تقوموا بما تقتضيه من حقوق شرعية . وقوله { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } تعليل لجواب الوفاء بالعهد .
أى : كونوا أوفياء بعهودكم لأن صاحب العهد كان مسئولا عنه ، أمام الله - تعالى - وأمام الناس ، فالكلام على حذف مضاف كما فى قوله - سبحانه - { واسأل القرية } .
وقال - سبحانه - : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد . . . } بالإِظهار دون الإِضمار للإِشعار بكمال العناية بشأن الوفاء بالعهود .
ويجوز أن يكون المعنى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، أى : كان مطلوبا بالوفاء به وقد مدح الله - تعالى - الذين يوفون بعهودهم فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } وقوله - تعالى - : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون }
يقول تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : لا تتصرفوا له إلا بالغبطة { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء : 2 ] و{ لا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء : 6 ] .
وقد جاء في صحيح مسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفًا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تَأَمَّرَن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم{[17483]} " {[17484]} .
وقوله [ تعالى ]{[17485]} : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها ، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا } أي : عنه .
{ ولا تقربوا مال اليتيم } فضلا أن تتصرفوا فيه . { إلا بالتي هي أحسن } إلا بالطريقة التي هي أحسن . { حتى يبلغ أشدّه } غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء . { وأوفوا بالعهد } بما عاهدكم الله من تكاليفه ، أو ما عاهدتموه وغيره . { إن العهد كان مسئولا } مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو مسؤولا عنه يسأل الناكث ويعاتب عليه لم نكثت ، أو يسأل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة { بأي ذنب قتلت } ، فيكون تخييلا ويجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسؤولا .
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }
هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات ، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم ، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية . وقد تقدم القول في نظير هذه الآية في سورة الأنعام . وهذه الوصية العاشرة .
والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابِقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية .
{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا }
أمروا بالوفاء بالعهد . والتعريف في { العهد } للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي ، وهو البيعة على الإيمان والنصر . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وإوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } في سورة النحل ( 91 ) وقوله : { وبعهد الله أوفوا } في سورة الأنعام ( 152 .
وهذا التشريع من أصول حرمة الأمة في نظر الأمم والثقةِ بها للانزواء تحت سلطانها . وقد مضى القول فيه في سورة الأنعام . والجملة معطوفة على التي قبلها . وهي من عداد ما وقع بعد ( أن ) التفسيرية من قوله : { ألا تعبدوا } الآيات [ الإسراء : 23 ] . وهي الوصية الحادية عشرة .
وجملة { إن العهد كان مسؤولا } تعليل للأمر ، أي للإيجاب الذي اقتضاه ، وإعادة لفظ { العهد } في مقام إضماره للاهتمام به ، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل .
وحُذف متعلق { مسؤولا } لظهوره ، أي مسؤولاً عنه ، أي يسألكم الله عنه يوم القيامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، إلا لتنمي ماله بالأرباح...
{حتى يبلغ أشده}، يعني: ثماني عشرة سنة،
{وأوفوا بالعهد} فيما بينكم وبين الناس،
{إن العهد} إذا نقض، {كان مسئولا}، يقول: الله سائلكم عنه في الآخرة...
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}. ابن عطية: قال مالك رحمه الله: يأخذ منه بقدر تعبه.
ابن رشد: قال مالك:... فالأشُد هاهنا: الحُلُم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقضى أيضا أن لا تقربوا مال اليتيم بأكل، إسرافا وبدارا أن يَكْبَروا، ولكن اقرَبوه بالفَعْلَة التي هي أحسن، والخَلّة التي هي أجمل، وذلك أن تتصرّفوا فيه له بالتثمير والإصلاح والحيطة...
"حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ" يقول: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل، وتدبير ماله، وصلاح حاله في دينه.
"وأوْفُوا بالعَهْدِ" يقول: وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود.
"إنّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولاً" يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقصوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: حفظ أصوله وتثمير فروعه، وهو محتمل.
الثاني: أن التي هي أحسن التجارة له بماله...
{حتى يَبْلُغَ أَشدَّه} وفي الأشد وجهان:
والثاني: الاحتلام مع سلامة العقل وإيناس الرشد...
{وأوفوا بالعهد} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنها العقود التي تنعقد بين متعاقدين يلزمهم الوفاء بها، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
الثاني: أنه العهد في الوصية بمال اليتيم يلزم الوفاء به.
الثالث: أنه كل ما أمر الله تعالى به أو نهى فهو من العهد الذي يلزم الوفاء به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في الآية الأولى نهي من الله تعالى لجميع المكلفين أن يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وهو أن يحفظوا عليه ويثمروه أو ينفقوا عليه بالمعروف على مالا يشك أنه أصلح له، فأما لغير ذلك، فلا يجوز لأحد التصرف فيه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: يَعْنِي الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْيَتِيمِ، وَذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْيَتِيمِ، لَا لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ...
قَوْلُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يَعْنِي قُوَّتَهُ... وَالْأَشُدُّ كَمَا قُلْنَا فِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَا بُدَّ من حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَشُدَّ هَاهُنَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهى عن الإغارة على الأرواح والأبضاع التي هي سببها، أتبعه النهي عن نهب ما هو عديلها، لأن به قوامها، وهو الأموال، وبدأ بأحق ذلك بالنهي لشدة الطمع فيه لضعف مالكه فقال تعالى: {ولا تقربوا} أي فضلاً عن أن تأكلوا {مال اليتيم} فعبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام {إلا بالتي هي أحسن} من طرائق القربان، وهو التصرف فيه بالغبطة تثميراً لليتيم {حتى يبلغ} اليتيم {أشده} وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه.
ولما كانت الوصية نوعاً من أنواع العهد، أمر بوفاء ما هو أعم منها فقال تعالى: {وأوفوا} أي أوقعوا هذا الجنس في الزمان والمكان، وكل ما يتوقف عليه الأمر المعاهد عليه ويتعلق به {بالعهد} أي بسببه ليتحقق الوفاء به ولا يحصل فيه نقص ما، وهو العقد الذي يقدم للتوثق.
ولما كان العلم بالنكث والوفاء متحققاً، كان العهد نفسه كأنه هو المسؤول عن ذلك، فيكون رقيباً على الفاعل به، فقال تعالى مرهباً من المخالفة: {إن العهد كان} أي كوناً مؤكداً عنه {مسؤولاً} أي عن كل من عاهد هل وفى به؟ أو مسؤولاً عنه من كل من يتأتى منه السؤال.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الإيفاءُ بالعهد والوفاءُ به هو القيامُ بمقتضاه والمحافظةُ عليه ولا يكاد يُستعمل إلا بالباء فرقاً بينه وبين الإيفاء الحسيِّ كإيفاء الكيل والوزن...
{إِنَّ العهد} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكم والعنايةِ بشأنه، أو لأن المرادَ مطلقُ العهد المنتظمِ للعهد المعهود...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد؛ أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة الجمع، ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، وعدم التبذير، والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف، وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر.. كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية. وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية... والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابِقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية... والتعريف في {العهد} للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي، وهو البيعة على الإيمان والنصر... والجملة معطوفة على التي قبلها. وهي من عداد ما وقع بعد (أن) التفسيرية من قوله: {ألا تعبدوا} الآيات [الإسراء: 23]... وجملة {إن العهد كان مسؤولا} تعليل للأمر، أي للإيجاب الذي اقتضاه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الأشُد هو القوة العالية على صيغة الجمع من غير مفرد وقيل له مفرد وهو شدة بمعنى قوة ولكن لم يعهد جمع فعلة على افعل، وقيل يجمع على أشد مثل كلب وأكلب... وقد يسال سائل لماذا اجتمع الأمر بالأمر بالوفاء بالعهد مع النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في آية واحدة؟ ونقول: إن ذلك يشير أولا أن اليتيم مع كافله كأنه في عهد أمانة عاهد الله تعالى عليه فلا يضيع ذلك العهد، ويشير ثانيا إلى أن العقد في مال اليتيم يجب الوفاء به كما يجب الوفاء في مال غيره، ويشير ثالثا إلى أنه مسئول أمام الله عما فعل في مال اليتيم...
وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه: {ولا تقربوا}: ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدي عليه؛ لأن اليتم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أن تجترئ عليه.. و (أحسن) أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟ الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تبدده ولا تتعدى عليه. لكن الأحسن: أن تنمي له هذا المال وتثمره وتحفظه له، إلى أن يكون أهلاً للتصرف فيه. لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال: {وارزقوهم فيها.. "5 "} (سورة النساء): ولم يقل: وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها ينقصها، لكن معنى: {وارزقوهم فيها.. "5 "} (سورة النساء): أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال... وكلمة (أشده) أي: يبلغ شدة تكوينه، ويبلغ الأشد أي: تستوي ملكاته استواءً لا زيادة عليه... (العهد) ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته، وأول عقد أبرم هو العقد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً... ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود، لذلك يجب الوفاء بالعهود؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان... العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ}: أتموا العهد ولا تنقضوا حفظه...
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} أي لا تتصرفوا فيه بأيِّ نحو من أنحاء التصرفات العملية والقانونية، وذلك على سبيل الكناية، في التأكيد على المنع عن التصرف، بالتركيز على المنع عن القرب منه... والظاهر أن المقصود بالأحسن، هو الأفضل من عدمه، لا الأعلى على جميع المستويات، لأن ذلك ليس بمقصود، على الظاهر... المصطلح الشرعي لليتيم يُراد به الذي لم يبلغ الحلم، فإذا بلغ الحلم فلا يُتم... {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} وهو الالتزام الذي يُلزم به الإنسان نفسه، من خلال مبادرة ذاتية، أو بالتزامه برسالة أو منهج يلزمه بذلك، فيشمل العهود التعاقدية في المعاملات المالية، أو في العلاقات الإنسانية، أو في المعاهدات الدولية، أو في المسؤوليات الشرعية... إذا التزم بعهد غير شرعي، فلا يجوز له الوفاء به، لأن قضية الوفاء تتحرك في خطين: مسؤولية الإنسان أمام الإنسان الآخر، ومسؤولية الإنسان أمام الله، في ما يجب عليه، وما لا يجب أو لا يجوز، كما إذا كان التزاماً بفعل حرام، أو خيانة الدين أو الأمة...