المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا} (34)

الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى ، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي ، و { اليتيم } الفرد من الأبناء ، واليتم الانفراد ، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه ، قال ابن السكيت : اليتم في البشر من قبل الأب ، وفي البهائم من قبل الأم ، وفي كتاب الماوردي ، أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضاً ، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد ، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة ، قال ابن سيده : وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم ، وأنشد في ذلك : [ الطويل ]

فبت أشوي ظبيتي وحليلتي . . . طربا وجرو الذيب يتمان جائع{[7553]}

ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان ، وفي الحديث «لا يتم بعد حلم »{[7554]} وقوله { إلا بالتي هي أحسن } يريد إلا بأحسن الحالات .

قال القاضي أبو محمد : وذلك في الوصي الغني ، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئاً على جهة الانتفاع به ، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة ، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه ، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو ؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يتسلف منه ، فإذا أيسر رد فيه ، وقال ابن المسيب ، لا يشرب الماء من مال اليتيم ، قيل له فما معنى { فليأكل بالمعروف }{[7555]} ؟ قال : إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه ، وقال مجاهد : لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه ، قال : قوله { فليأكل بالمعروف } [ ذاته ] معناه من مال نفسه ، وقال أبو يوسف : لعل قوله { فليأكل بالمعروف } [ ذاته ] منسوخ بقوله { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }{[7556]} [ النساء : 29 ] وقال ابن عباس : يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه ، ويلط الحوض{[7557]} ويجد النخل{[7558]} ، وينشد الضالة{[7559]} فليأكل غير مضر بنسل{[7560]} ولا ناهك في الحلب{[7561]} ، وقال زيد بن أسلم : يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة{[7562]} من العيش بتعبه .

قال القاضي أبو محمد : وهذه استعارة للتقلل{[7563]} ، وقال مالك رحمه الله وغيره . يأخذ منه أجره بقدر تعبه ، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن ، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات{[7564]} ، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه ، فنزلت { وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح }{[7565]} وقوله { حتى يبلغ أشده } غاية الإمساك عن مال اليتيم ، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى ، وما بعد هذه الغايات أبداً موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة ، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، وبعث بها ، فلم يحرم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ، و «الأشد » جمع شد عند سيبويه{[7566]} ، وقال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه ، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه ، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ ، ف «الأشد » في مذهب مالك أمران ، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك ، والرشد في المال ، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين ، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطاً لماله ، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك ، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه .

قال القاضي أبو محمد : ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة ، وقال أبو إسحاق الزجاج «الأشد » في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة ، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم ، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله ، وقوله { بالعهد } لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة ، وقوله { إن العهد كان مسؤولاً } أي مطلوباً ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا ؟ .


[7553]:البيت لأبي العارم الكيلاني، وهو في اللسان (يتم)، وأشوي: أطعم الشواء، والصبي: الصغير الذي لم يفطم، أو الصغير دون الغلام. وحليلة الرجل: زوجه، والري: اللين الغض، وجرو الذئب: صغيره، واليتمان: لغة في اليتيم، وهي موضع الشاهد في البيت.
[7554]:أخرجه أبو داود في الوصايا، ولفظه فيه: (لا يتم بعد احتلام)، أي: بلوغ.
[7555]:من الآية (6) من سورة (النساء).
[7556]:من الآية (188) من سورة (البقرة).
[7557]:لاط الحوض بالطين: طلاه وملسه به.
[7558]:جذ النخل جذا: قطع ثمره وجناه.
[7559]:نشد الضالة: طلبها وبحث عنها.
[7560]:النسل: الولد والذرية، وجمعه أنسال، والمراد هنا: النتاج.
[7561]:أي: غير مبالغ في الحلب بحيث يجهد الدابة المحلوبة، يقال: نهك الضرع إذا بالغ في حلبه حتى استوفى جميع ما فيه.
[7562]:البلغة: ما يكفي لسد الحاجة ولا يفضل عنها.
[7563]:أي: لا يأخذ إلا أقل شيء.
[7564]:راجع الجزء الثالث صفحة 498 وما بعدها.
[7565]:من الآية (220) من سورة (البقرة).
[7566]:في اللسان (شدد): "قال أبو عبيد: واحدها شد في القياس، قال: ولم أسمع لها بواحدة، وقال سيبويه: واحدتها شدة، كنعمة وأنعم، ابن جني: جاء على حذف التاء كما كان ذلك في نعمة وأنعم"، تأمل هذا وتأمل قول ابن عطية عن سيبويه.