قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } الآية .
اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النَّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس ، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال ؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ ؛ لأنَّه لصغره ، وضعفه ، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله ؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } نظيرهُ قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] .
المراد بقوله : { إلا بالتي هي أحسن } أي : إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره .
وروى مجاهد عن ابن عباس ، قال : إذا احتاج أكل بالمعروف ، وإذا أيسر قضاه ، فإن لم يوسر ، فلا شيء عليه{[20403]} .
واعلم أن الولي ، إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده ، وهو بلوغ النكاح ، كما بينه الله تعالى في قوله : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .
المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله ، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه .
قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً ، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء ، وهي الزِّنا ، والقتلُ ، وأكل مالِ اليتيم ، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } .
واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده ، فهو عهدٌ ؛ كعقد البيع والشَّركة ، وعقد اليمين والنَّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النِّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين ، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد ، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود ؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] { وَأَحَلَّ الله البيع } [ البقرة : 275 ] وَ{ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] . { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ " {[20404]} .
وقوله : " إذَا اختلف الجِنْسَانِ ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ " {[20405]} .
وقوله : " مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ " {[20406]} .
فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام .
فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد ، قضينا به ؛ تقديماً للخاصِّ على العام ، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس ، فباطلٌ ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها{[20407]} مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل ؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة ، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ .
قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } عن الوفاء بعهده ؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
والثاني : أنَّ الضمير يعود على العهد ، ونسب السؤال إليه مجازاً ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 ، 9 ] .
أي : يقال للعهد عن صاحب العهد : لم نقضت ، وهلاَّ وفَّى بك ؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره .
وقال السديُّ : { كَانَ مَسْؤُولاً } ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به{[20408]} .
وقيل : المراد بوفاء العهد : الإتيان بما أمر الله - تعالى - به ، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.