اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا} (34)

قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } الآية .

اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النَّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس ، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال ؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ ؛ لأنَّه لصغره ، وضعفه ، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله ؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } نظيرهُ قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] .

المراد بقوله : { إلا بالتي هي أحسن } أي : إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره .

وروى مجاهد عن ابن عباس ، قال : إذا احتاج أكل بالمعروف ، وإذا أيسر قضاه ، فإن لم يوسر ، فلا شيء عليه{[20403]} .

واعلم أن الولي ، إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده ، وهو بلوغ النكاح ، كما بينه الله تعالى في قوله : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .

المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله ، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه .

قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } الآية .

اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً ، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء ، وهي الزِّنا ، والقتلُ ، وأكل مالِ اليتيم ، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } .

واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده ، فهو عهدٌ ؛ كعقد البيع والشَّركة ، وعقد اليمين والنَّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النِّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين ، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد ، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود ؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] { وَأَحَلَّ الله البيع } [ البقرة : 275 ] وَ{ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] . { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .

وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ " {[20404]} .

وقوله : " إذَا اختلف الجِنْسَانِ ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ " {[20405]} .

وقوله : " مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ " {[20406]} .

فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام .

فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد ، قضينا به ؛ تقديماً للخاصِّ على العام ، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس ، فباطلٌ ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها{[20407]} مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل ؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة ، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ .

قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } عن الوفاء بعهده ؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .

والثاني : أنَّ الضمير يعود على العهد ، ونسب السؤال إليه مجازاً ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 ، 9 ] .

أي : يقال للعهد عن صاحب العهد : لم نقضت ، وهلاَّ وفَّى بك ؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره .

وقال السديُّ : { كَانَ مَسْؤُولاً } ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به{[20408]} .

وقيل : المراد بوفاء العهد : الإتيان بما أمر الله - تعالى - به ، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه .


[20403]:تقدم في سورة النساء.
[20404]:أخرجه أحمد (5/72 ـ 73) والدارمي (2/246) كتاب البيوع: باب في الربا الذي كان في الجاهلية وأبو يعلى (3/139) رقم (1570) والدارقطنى (3/26) والبيهقي (6/100) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه.
[20405]:أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده (2/43، 45) وذكره القرطبي في "تفسيره" (10/86).
[20406]:ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" (2/321) وقال: رواه القضاعي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة وفي سنده عمر بن إبراهيم الكردي وضاع.
[20407]:في ب: كلها.
[20408]:ذكره الرازي في "تفسيره" (3/114).