والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول{[579]} ولهذا قالوا : { إِنْ كَادَ } هذا الرجل { لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } بأن يجعل الآلهة إلها واحدا { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } لأضلنا زعموا -قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه . { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ }
وهنا قالوا : { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها ، إلا في هذا الموضع فإنه صبر على أسباب الغضب وعلى الاستكثار من حطب جهنم . وأما المؤمنون فهم كما قال الله عنهم : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول ضال وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } يعلمون علما حقيقيا { مَنْ } هو { أَضَلُّ سَبِيلًا } { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } الآيات .
ثم يشير القرآن إلى كذبهم فيما قالوه ، لأنهم مع إظهارهم للسخرية منه صلى الله عليه وسلم كانوا فى واقع أمرهم ، وحقيقة حالهم يعترفون له بقوة الحجة ، وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } .
أى : أنهم كانوا يقولون فيما بينهم : إن هذا الرسول كاد أن يصرفنا بقوة حجته عن عبادة آلهتنا . لولا أننا قاومنا هذا الشعور وثبتنا على عبادة أصنامنا .
قال الآلوسى : قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أى : يصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط . لولا أن صبرنا عليها واستمسكنا بعبادتها . . . وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد فى لدعوة إلى التوحيد . . . ما شارفوا معه أن يتركوا دينهم لولا فرط جهالاتهم ولجاجهم وغاية عنادهم .
وقوله - تعالى - : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } تهديد لهم على سوء أدبهم ، وعلى جحودهم للحق بعد أن تبين لهم .
أى : وسوف يعلم هؤلاء الكافرون حين يرون العذاب مائلا أمام أعينهم ، من أبعد طريقا عن الحق ، أهم أم المؤمنون .
فالجملة الكريمة وعيد شديد لهم على استهزائهم بالرسول الكريم الذى جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .
وقولهم{[21539]} : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } يعنون : أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم ، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على عبادتها . قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } .
ثم قال تعالى لنبيه ، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال ، فإنه لا يهديه أحد إلا الله .
{ إن } إنه { كاد ليضلنا عن آلهتنا } ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات . { لولا أن صبرنا عليها } ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و { لولا } في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ . { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } كالجواب لقولهم { وإن كان ليضلنا } فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له ، وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يمهلهم وإن أمهلهم .
{ إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها }
{ إنْ } مخفَّفَة من ( إنّ ) المشددة ، والأكثر في الكلام إهمالها ، أي ترك عملها نصبَ الاسم ورفعَ الخبر ، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال . ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في ( أنّ ) المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيداً . وفي كلام صاحب « الكشاف » ما يشهد له في تفسير قوله تعالى : { وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين } في سورة آل عمران ( 164 ) ، والجملة بعدها مستأنفة ، واللاّم في قوله لَيُضِلّنا } هي الفارقة بين ( إنْ ) المحققة وبين ( إنْ ) النافية .
والصبر : الاستمرار على ما يشق عمله على النفس . ويعدّى فعله بحرف ( على ) لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه .
و { لولا } حرف امتناع لوجود ، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جواباً لشرطها ، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل { لولا } عليه ، وهو { إن كاد ليضلنا } . وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييداً لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدَّم دليلَ الجواب ، والجواب محذوفاً لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب ، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه ، ولذا قال في « الكشاف » : « { لولا } في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة » فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى : { لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } إلى قوله : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي } [ الممتحنة : 1 ] فإن قوله : { إن كنتم } قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداءِ الله . وتأخير الشرط ليَظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب . قال في « الكشاف » : { إن كنتم خرجتم } متعلق ب { لا تتخذوا } يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقولُ النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه » اه . وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جواباً للشرط تقديماً لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] .
{ وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا }
هذا جواب قولهم { إن كاد لَيُضِلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } المتضمن أنهم على هدى في دينهم ، وكان الجواب بقطع مُجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم ، فتضمن ذلك وعيداً بعذاب . والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر ، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي ، وزعيم القالة في ذلك النادي .
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالاً من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطىءِ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخَّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود : أنتَ أبو جهل ؟ فقال : « وهَل أعمد من رجل قتله قومه » .