قوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين } . إنما أعاد ذكر المتعة هاهنا لزيادة معنى ، وذلك أن في غيرها بيان حكم غير الممسوسة ، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة ، وقيل : إنه لما نزل قوله تعالى : ( ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) إلى قوله ( حقاً على المحسنين ) قال رجل من المسلمين : أن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فقال الله تعالى : ( وللمطلقات متاع ) جعل المتعة لهن بلام التمليك وقال : ( حقاً على المتقين ) يعني المؤمنين المتقين الشرك .
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
أي : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق ، جبرا لخاطرها وأداء لبعض حقوقها ، وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس ، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم ، هذا أحسن ما قيل فيها ، وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الآية ، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيّد ، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة .
ثم بين - سبحانه - حق المطلقات فقال : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } أي وللمطلقات على أزواجهن الذين طلقوهن متاع بالمعروف أي شيء ينتفع به انتفاعاً ممتدا لمدة من الوقت مما تعارف العقلاءي عليه وعلى فائدته للمرأة ، وهذا المتاع جعله الله حقا على المتقين الذين يصونون أنفسهم عن كل ما يبغضه الله - تعالى - .
وقد جعل الله هذا الحق للمطلقة على مطلقها جبراً لوحشة الفراق وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق ، وتخفيفاً لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق .
وقال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء أكانت مفوضة ، أو مفروضاً لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولا بها . وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير ، وهو قول عن الشافعي .
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التي طلقها زيادة عن الحقوق المقررة لها شرعا ليكون التسريح بإحسان .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالمتاع هنا النفقة التي تكون للمطلقة في العدة قال الفخر الرازي : واعلم أن المراد بالمتاع ههنا فيه قولان :
أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات .
والقول الثاني " أن المراد بهذه المتعة النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعا ، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى " .
ويظهر أن مراد الفخر الرازي بقوله : " اندفع التكرار " أي ما بين هذه الآية التي سبقة وهي قوله - تعالى - : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } ولك أن تقول : إنه لا تكرار مع إرادة المتعة التي ليست هي النفقة لأنه في السابقة بين أنها حق للمرأة حين تلطق ولم يكن قد قدر لها حق في المتعة إذا لم يوص لها زوجها بالنفقة .
وقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل قوله : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل . فأنزل الله هذه الآية : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا{[4192]} قبل المسيس أو مدخولا بها ، وهو قول عن الشافعي ، رحمه الله . وإليه ذهب سعيد بن جبير . وغيره من السلف واختاره ابن جرير . ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وأجاب الأولون : بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصور ، والله أعلم .
{ وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } أثبت المتعة للمطلقات جميعاً بعدما أوجبها لواحدة منهن ، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة ، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب . وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية .
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 241 )
اختلف الناس في هذه الآية ، فقال أبو ثور : «هي محكمة ، والمتعة لكل مطلقة دخل بها أو لم يدخل ، فرض لها أو لم يفرض ، بهذه الآية » ، وقال الزهري : «لكل مطلقة متعة ، وللأمة يطلقها زوجها » . وقال سعيد بن جبير : «لكل مطلقة متعة » . وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة : «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها » .
قال القاضي أبو محمد : ففر ابن القاسم رحمه الله من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء ، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم . وإذا التزم ابن القاسم أن قوله { وللمطلقات } عمَّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد . وقال عطاء بن أبي رباح وغيره . هذه الآية في الثيب( {[2347]} ) اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن .
قال القاضي أبو محمد : فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في هذا العموم ، فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى : { فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] مخصصة لهذا الصنف من النساء ، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا تخصيص( {[2348]} ) ، وقال ابن زيد : «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة ، لأنه نزل قبل { حقاً على المحسنين } [ البقرة : 236 ] فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت : { حقاً على المتقين } فوجب ذلك عليهم » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد .
وقوله تعالى : { حقاً } نصب على المصدر ، و { المتقين } هنا ظاهره أن المراد من تلبس بتقوى الله ( {[2349]} )تعالى .