{ قُل } للمستعجلين بالعذاب ، جهلا وعنادا وظلما ، { لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فأوقعته بكم ولا خير لكم في ذلك ، ولكن الأمر ، عند الحليم الصبور ، الذي يعصيه العاصون ، ويتجرأ عليه المتجرئون ، وهو يعافيهم ، ويرزقهم ، ويسدي عليهم نعمه ، الظاهرة والباطنة . { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، فيمهلهم ولا يهملهم .
ثم بين - سبحانه - حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبى عليه الصلاة والسلام فقال : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي } أى : قل لهم يا محمد لو أن فى قدرتى وإمكانى العذاب الذى تتعجلونه ، لقضى الأمر بينى وبينكم .
قال صاحب الكشاف أى : " لأهلكتكم عاجلا غضباً لربى . وامتعاضاً من تكذيبكم به ، ولتخلصت منكم سريعاً " .
وجملة { والله أَعْلَمُ بالظالمين } تذييل ، أى : والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله ، لأنه العليم الخبير الذى عنده ما تستعجلون به .
والتعبير { بالظالمين } إظهار فى مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون فى شركهم وظالمون فى تكذيبهم لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : فإن قيل : فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت فى الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبنى إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا جبريل فنادانى فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لامره بما شئت فيهم ، قال فنادانى ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد : إن الله قد سمع قول قومك لك . وأنا ملك الجبال وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقلت له : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له " .
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً .
قال ابن كثير : فالجواب على ذلك - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذى يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم " .
وقوله : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي ، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وَهْب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيتُ من قومك ، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال ، فلم يجبني إلى ما أردتُ ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم " . قال : " فناداني مَلَك الجبال وسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك{[10727]} إليك ، لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا{[10728]} يشرك به شيئا " ، وهذا لفظ مسلم{[10729]}
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا . فما الجمع بين هذا ، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } ؟
فالجواب - والله أعلم - : أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له ، لأوقعه بهم . وأما الحديث ، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا{[10730]} وشمالا - فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم{[10731]}
وقوله تعالى : { قل لو أن عندي } الآية ، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال ، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين ، وحكى الزهراوي : أن المعنى لقامت القيامة ، ورواه النقاش عن عكرمة ، وقال بعض الناس : معنى { لقضي الأمر } أي لذبح الموت{[4939]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف جداً لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى : { وأنذرههم يوم الحسرة إذ قضي الأمر }{[4940]} وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه ، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة ، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة { والله أعلم بالظالمين } يتضمن الوعيد والتهديد .