معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

قوله تعالى : { والذين لا يشهدون الزور } قال الضحاك وأكثر المفسرين : يعني الشرك ، وقال علي بن طلحة : يعني شهادة الزور . وكان عمر بن الخطاب : يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويطوف به في السوق . وقال ابن جريج : يعني الكذب . وقال مجاهد : يعني أعياد المشركين . وقيل : النوح ، قال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وقال محمد بن الحنفية : لا يشهدون اللهو والغناء . قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع . وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته . فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق . { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نظيره قوله : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } قال السدي : وهي منسوخة بآية القتال . قال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلها ، يعني إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراماً مسرعين معرضين . يقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : لا يحضرون الزور أي : القول والفعل المحرم ، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة ، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير ، والصور ونحو ذلك ، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه .

وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية ، { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم { مَرُّوا كِرَامًا } أي : نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه .

وفي قوله : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه ، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

ثم واصلت السورة حديثها عن عباد الرحمن ، فقال - تعالى - : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } .

وأصل الزور : تحسين الشىء ووصفه بغير صفته ، ووضعه فى غير موضعه ، مأخوذ من الزَّور بمعنى الميل والانحراف عن الطريق المستقيم إلى غيره .

واللغو : هو مالا خير فيه من الأقوال أو الأفعال .

أى : إن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يرتكبون شهادة الزور ، ولا يحضرون المجالس التى توجد فيها هذه الشهادة ، لأنها من أمهات الكبائر التى حاربها الإسلام .

وفضلا عن ذلك فإنهم " إذا مروا باللغو " أى : بالمجالس التى فيها لغو من القول أو الفعل " مروا كراما " أى : أعرضوا عنها إكراما لأنفسهم ، وصونا لكرامتهم ، وحفاظا على دينهم ومروءتهم .

والتعبير بقوله - تعالى - : { وَإِذَا مَرُّواْ . . . } فيه إشعار بأن مرورهم على تلك المجالس كان من باب المصادفة والاتفاق ، لأنهم أكبر من أن يقصدوا حضورها قصدا .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن ، أنهم : { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام . وقيل : الكذب ، والفسق ، واللغو ، والباطل .

وقال محمد بن الحنفية : [ هو ]{[21655]} اللهو والغناء .

وقال أبو العالية ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وغيرهم : هي أعياد المشركين{[21656]} .

وقال عمرو بن قيس : هي مجالس السوء والخنا .

وقال مالك ، عن الزهري : [ شرب الخمر ]{[21657]} لا يحضرونه ولا يرغبون فيه ، كما جاء في الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " {[21658]} .

وقيل : المراد بقوله تعالى : { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : شهادة الزور ، وهي الكذب متعمدا على غيره ،

كما [ ثبت ]{[21659]} في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال : قال{[21660]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر " ثلاثا ، قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : " الشرك بالله ، وعقوق الوالدين " . وكان متكئًا فجلس ، فقال : " ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور [ ألا وقول الزور وشهادة الزور ] . {[21661]} فما زال يكررها ، حتى قلنا : ليته سكت{[21662]} .

والأظهر من السياق أن المراد : لا يشهدون الزور ، أي : لا يحضرونه ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي : لا يحضرون الزور ، وإذا اتفق مرورهم به مرُّوا ، ولم يتدنسوا منه بشيء{[21663]} ؛ ولهذا قال : { مَرُّوا كِرَامًا } .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو الحسين العجلي ، عن محمد بن مسلم ، أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرة ، أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا{[21664]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أصبح ابن مسعود ، وأمسى كريمًا " .

وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي ، حدثنا حبان ، أنا عبد الله ، أنا محمد بن مسلم ، أخبرني ابن ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[21665]} : " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما " {[21666]} . ثم تلا إبراهيم بن ميسرة : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } {[21667]} .


[21655]:- زيادة من أ.
[21656]:- في ف : "للمشركين".
[21657]:- زيادة من ف ، أ.
[21658]:- رواه الترمذي في السنن برقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس عن جابر به مرفوعا ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاوس عن جابر إلا من هذا الوجه" ثم نقل كلام العلماء في تضعيف ليث بن أبي سليم.
[21659]:- زيادة من ف ، أ.
[21660]:- في ف ، أ : "عن".
[21661]:- زيادة من ف ، أ.
[21662]:- صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
[21663]:- في أ : "فيه شيء".
[21664]:- في أ : "فلم يقف".
[21665]:- في أ : "النبي".
[21666]:- زيادة من ف ، أ.
[21667]:- ورواه ابن عساكر كما في المختصر لابن منظور (14/55) من طريق إبراهيم بن ميسرة به.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

{ والذين لا يشهدون الزور } لا يقيمون الشهادة الباطلة ، أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه { وإذا مروا باللغو } ما يجب أن يلقى ويطرح . { مروا كراما } معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية فيما يستهجن التصريح به .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا} (72)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذين لا يشهدون الزور} يعني: لا يحضرون الذنب يعني: الشرك {وإذا مروا باللغو مروا كراما} يقول: إذا سمعوا من كفار مكة الشتم والأذى على الإسلام مروا كراما معرضين عنهم، كقوله سبحانه: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص:55].

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه؛ فقال بعضهم: معناه الشرك بالله... وقال آخرون: بل عُنِي به الغناء... وقال آخرون: هو قول الكذب... وأصل الزّور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيّل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسّن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حقّ، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعُه سماعَه، والكذب أيضا قد يدخل فيه، لتحسين صاحبه إياه، حتى يظنّ صاحبه أنه حقّ، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزّور.

فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل، لا شركا، ولا غناء، ولا كذبا ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن الله عمّ في وصفه إياهم، أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يُخَصّ من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل.

وقوله:"وَإذَا مَرّوا باللّغْوِ مَرّوا كِرَاما"، اختلف أهل التأويل في معنى اللغو الذي ذُكر في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: معناه: ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين ويكلمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما: إعراضهم عنهم وصفحهم...

وقال آخرون: بل معناه: وإذا مرّوا بذكر النكاح، كفوا عنه... وقال آخرون: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له...

وقال آخرون: عُنى باللغو ها هنا: المعاصي كلها...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مرّوا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللّغو، وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُني به بعض ذلك دون بعض، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغيّر بالقول فيغيروه بالقول، وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم عاد تعالى إلى وصف المؤمنين فقال "والذين لا يشهدون الزور "أي لا يحضرونه، ولا يكون بحيث يذكرونه بشيء من حواسهم الخمس: البصر، والسمع، والأنف، والفم، والبشرة. ومن لا يشهد الزور، فهو الذي لا يشهد به ولا يحضره لأنه لو شهده لكان قد حضره، فهو أعم في الفائدة من أن لا يشهد به. والزور: تمويه الباطل بما يوهم أنه حق...

وقوله "واذا مروا باللغو مروا كراما" معناه: مروا من جملة الكرماء الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يجلون عن الاختلاط بأهله، والدخول فيه، فهذه صفة الكرام، وقيل: مرورهم كراما كمرورهم بمن يسبهم فيصفحون عنه، وكمرورهم بمن يستعين بهم على حق فيعينونه...

واللغو: الفعل الذي لا فائدة فيه... ولهذا يقال: الكلمة التي لا تفيد لغو.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يستمكنون في مواطن الصدق لا يبرحون عنه ليلاً ونهاراً، وقولاً وفعلاً. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين مُعْرِضين لا يساكِنون أهل تلك الحالة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه، لأنّ مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم؛ لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه؛ لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه... ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه...

{وَإذَا مَرُّواْ بِالَّلغْوِ مَرُّوا كِراماً} اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به، مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} [القصص: 55] وعن الحسن رضي الله عنه: لم تسفههم المعاصي...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... لا شبهة في أن قوله: {مروا كراما} معناه أنهم يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو، وإكرامهم لها لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة والمساعدة... وقال الليث: يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما وصف عباده سبحانه بأنهم تحلوا بأصول الفضائل، وتخلوا عن أمهات الرذائل، ورغب التوبة، لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص، وكان قد مدحهم بعد الأولى من صفاتهم بالحلم عن الجهل مدحهم قبل الأخرى من أمداحهم وعقب تركهم الزنا بالإعراض أصلاً عن اللغو الذي هو أعظم مقدمات الزنا فقال: {والذين لا يشهدون} أي يحضرون انحرافاً مع الهوى كما تفعل النار التي الشيطان منها {الزور} أي القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به ويقروا عليه؛ قال ابن جرير: وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله حتى ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغنا لأنه أيضاً مما يحسن بترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضاً يدخل فيه بتحسين صاحبه إياه حتى يظن أنه حق.

وعطف عليه ما هو أعم منه فقال: {وإذا مروا باللغو} أي الذي ينبغي أن يطرح ويبطل سواء كان من وادي الكذب أو العبث الذي لا يجدي؛ قال ابن جرير: وهو في كلام العرب كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح. {مروا كراماً} أي آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، إن تعلق بهم أمر أو نهي، بإشارة أو عبارة، على حسب ما يرونه نافعاً، أو معرضين إن كان لا يصلح شيء من ذلك لإثارة مفسدة أعظم من ذلك أو نحوه، رحمة لأنفسهم وغيرهم، وأما حضورهم لذلك وسكوتهم فلا، لأن النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب لوجوده والزيادة فيه.

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

... إن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها، وترك للنهي عن المنكر. وقد قال الله تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه". و قال تعالى: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين". فتعم الآية كل ظالم، فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، و لا يكفي أن ينكر و يجلس؛ لأنه يكون ببقائه معهم قد أظهر ما يدل على الرضا بفعلهم، ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول...

روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال لأصحابه لما وصلوا الحجر – ديار ثمود: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم". فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب، فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم.

جريمة الزور: وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني،أو اللزوم على الوجه الأول من أكبر الذنوب إثما، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق، وتضيع بها الحقوق، وتبطل المعاملات، وتزول الثقة بين الناس، وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم. وصح عنه – عليه وآله الصلاة والسلام – أنه قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور. وكان متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا – شفقة عليه – ليته سكت". فجلس لها، وبقي يكررها، لعظم شرها، و كبر مفسدتها، وعظم الإثم فيها على حسب ذلك منها. أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور.

الصفة العاشرة:"وإذا مروا باللغو مروا كراما"...والكريم: الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه، واستقامة أعماله، وسلامته من الرذائل...

موعظة: في الإقبال على اللغو شغل للبال به، وتكدير للخاطر بظلمته، وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك وإن قل. وقد يعقبها ضدها فتزول بعدما شغلت وعطلت. وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين. وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من ذكائك. و بقدر ما تتساهل بالوقوف عليه تقرب من الدخول فيه، وإذا دخلت فيه واستأنست بأهله جرك إلى الزور وعظائم الأمور. ولشر أسباب متواصلة، وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض، فينتقل المغرور الغافل في خفيها إلى رجليها، ومن صغيرها إلى كبيرها.

فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، و يباعد كل البعد عنها وعن أهلها، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي، وذكرت عباد الرحمن لنقتدي.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك. وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا {والذين لا يشهدون الزور} الآية. وفعل (شهد) يستعمل بمعنى (حضر) وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى: {فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه} [البقرة: 185]، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى: {وشَهد شاهد من أهلها} [يوسف: 26]. والزور: الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب. وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولاً به ل {يشهدون}. وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله: {والذين لا يَدعون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68]. وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام (68) {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} ويجوز أن يكون فعل يشهدون} بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوباً على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ. {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} مناسب لكلا الجملتين. واللغو: الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه. وتقدم في قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} في سورة مريم (62). ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.

ومعنى: {مروا كراماً} أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة. ٍ

والكرامة: النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة. وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى: {أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7].. وقال تعالى: {وأعد لهم أجراً كريماً} [الأحزاب: 44]. وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى: {وذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعباً ولهواً} [الأنعام: 70]، وقوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55]. وإعادة فعل {مروا} لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال،.. ومنه قوله تعالى: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63].