قال ابن عباس : يغفر الله - تعالى - لأهل الإخلاص ذنوبهم . ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك ، فتعالوا نقول : إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين . فقال الله - تعالى - : أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم ، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فعندئذ يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثاً ، فذلك قوله :
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } ثم قال - تعالى - { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
والمراد بالنظر هنا : التدبر والتفكير .
والمعنى : انظر - أيها العاقل - وتأمل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم فى قولهم والله ربنا وما كنا مشركين ، وغاب عن عملهم ما كانوا يفترونه فى الدنيا من الأقوال الباطلة ، وما كانوا يفعلونه من جعلهم لله شركاء .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور مع أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً : ألا تراهم يقولون { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } وقد علموا أنه لا يقضى عليهم " .
وقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : حجتهم . وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : أي : معذرتهم . وكذا قال قتادة . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : أي قيلهم . وكذا قال الضحاك .
وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن{[10610]} قيلهم عند فتنتنا{[10611]} إياهم{[10612]} اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{[10613]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا{[10614]} عباس . سمعت الله يقول : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد ، فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا ، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل{[10615]} فيه شيء ، ولكن لا تعلمون{[10616]} وجهه .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : هذه في المنافقين .
وفي هذا نظر ، فإن هذه الآية مكية ، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة ، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]{[10617]} } [ المجادلة : 18 ] ، وهكذا قال في حق هؤلاء : { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } كَمَا قَالَ { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] {[10618]} } [ غافر : 73 ، 74 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد فاعلم كيف كذب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثان والأصنام في الاَخرة ، عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين ، واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها متخلقين في الدنيا من الكذب والفرية .
ومعنى النظر في هذا الموضع : النظر بالقلب لا النظر بالبصر ، وإنما معناه : تبين ، فاعلم كيف كذبوا في الاَخرة . وقال : «كذبوا » ، ومعناه : يكذبون ، لأنه لما كان الخبر قد مضى في الاَية قبلها صار كالشيء الذي قد كان ووجد . وضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول : وفارقهم الأنداد والأصنام وتبرّءوا منها ، فسلكوا غير سبيلها لأنها هلكت ، وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتزاء ، ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله وعبادتهم إياه وإشراكهم إياها في سلطان الله ، فضلّت عنهم ، وعوقب عابدوها بفريتهم . وقد بينا فيما مضى أن معنى الضلال : الأخذ على غير الهدى . وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سعة رحمة الله يومئذٍ . ذكر الرواية بذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : قال الله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الإسلام فقالوا : تعالو لنجحد قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : قول أهل الشرك حين رأوا الذنوب تغفر ، ولا يغفر الله لمشرك ، انظر كيف كذبوا على أنفسهم بتكذيب الله إياهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ ثم قال : ولا يَكْتُمونَ الله حَدِيثا بجوارحهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن حمزة الزيات ، عن رجل يقال له هشام ، عن سعيد بن جبير : ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : حلفوا واعتذروا ، قالوا : والله ربنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير ، قال : أقسموا واعتذروا : والله ربنا .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن حمزة الزيات ، عن رجل يقال له هشام ، عن سعيد بن جبير بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن سفيان بن زياد العصفري ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد ، قال من فيها من المشركين : تعالوا نقول : لا إله إلاّ الله ، لعلنا نخرج مع هؤلاء قال : فلم يصدّقوا ، قال : فحلفوا : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : فقال الله : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ : أي يشركون به .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلاّ مسلم ، قالوا : تعالوا إذا سئلنا قلنا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ . فسئلوا ، فقالوا ذلك ، فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم ، فودّ الذين كفروا حين رأوا ذلك لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا .
حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن خلف ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : يأتي على الناس يوم القيامة ساعة لما رأى أهل الشرك أهل التوحيد يُغْفر لهم ، فيقولوا : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ قال : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا على أنْفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال حدثنا سفيان عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، أنه كان يقول : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ يخفضها . قال : أقسموا واعتذروا . قال الحرث : قال عبد العزيز ، قال سفيان مرّة أخرى ، ثني هشام ، عن سعيد بن جبير .
قوله : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } جعل حالهم المتحدّث عنه بمنزلة المشاهد ، لصدوره عمّن لا خلاف في أخباره ، فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدلّ على النظر إليه كأنّه مشاهد حاضر .
والأظهر أنّ { كيف } لمجرّد الحال غير دالّ على الاستفهام . والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيّفهم بها . وقد تقدّمت له نظائر منها قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ] . وجعل كثير من المفسّرين النظر هنا نظراً قلبياً فإنّه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلّقاً عن العمل بالاستفهام ، أي تأمّل جواب قول القائل : كيف يفترون على الله الكذب تجده جواباً واضحاً بيّناً .
ولأجل هذا التحقّق من خبر حشرهم عبّر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله : { كذبوا على أنفسهم } . وكذلك قوله { وضلّ عنهم ما كانوا يفترون } .
وفعل ( كذب ) يعدّى بحرف ( على ) إلى من يخبّر عنه الكاذب كذباً مثل تعديته في هذه الآية ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { من كذب عليّ معتمداً فليتبوّأ مقعده من النار } ، وأمّا تعديته إلى من يخبره الكاذب خبراً كذباً فبنفسه ، يقال : كذبك ، إذا أخبرك بكذب .
وضلّ بمعنى غاب كقوله تعالى : { ضلَلْنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] ، أي غيّبنا فيها بالدفن . و { ما } موصولة و { يفترون } صلتها ، والعائد محذوف ، أي يختلقونه وماصْدق ذلك هو شركاؤهم . والمراد : غيبة شفاعتهم ونصرهم لأنّ ذلك هو المأمول منهم فلمّا لم يظهر شيء من ذلك نُزّل حضورهم منزلة الغيبة ، كما يقال : أُخِذتَ وغاب نصيرك ، وهو حاضر .