فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا ، و { قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } من الدين ، ولو كان غير سديد ، ولا دينًا ينجي من عذاب الله .
ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر . ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا ، أي : ليس عندهم من المعقول شيء ، ولا من العلم والهدى شيء . فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح ، ولا عقل رجيح ، وترك اتباع ما أنزل الله ، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا ، وهدى ، وإيقانا .
ثم حكى - سبحانه - ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } .
أي : وإذا قال قائل - على سبيل النصح والإِرشاد إلى الخير - لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل : تعالوا أي : أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه ، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا : بعناد وغباء - { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } : كافينا في هذا الشأن ما وجدوا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات . فلا نلتفت إلى ما سواه .
وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر . إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلداً غيره ومنقاداً له انقياد الخانعين الأذلاء .
ولم يذكر - سبحانه - القائل في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } للإِشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، والمؤمنون يدعونهم . والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم . ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون ، وتحت سلطان سادتهم خانعون .
وقوله - تعالى - { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير .
والواو في قوله { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } وأو الحال . والهمزة التي دخلت عليها للانكار والتعجب من ضلالهم .
والمعنى : أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم .
وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئاً أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم . فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير .
فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم ؛ لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك ، قال الله تعالى { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا } أي : لا يفهمون حقًا ، ولا يعرفونه ، ولا يهتدون إليه ، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم ، وأضل سبيلا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } . .
يقول تعالىّ ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيبون السوائب الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى يفترون على الله الكذب : تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله ، ليتبين لكم كذب قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى من تحريمكم ما تحرّمون من هذه الأشياء ، أجابوا من دعاهم إلى ذلك ، بأن يقولوا : حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءنا يعملون به ، ويقولون : نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة ، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل . قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئا ، يقول : لم يكونوا يعلمون أن ما يضيفونه إلى الله تعالى من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كذب وفرية على الله ، لا حقيقة لذلك ولا صحة لأنهم كانوا أتباع المفترين ابتدأوا تحريم ذلك افتراء على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ما يضيفون ما كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب ، بل كانوا على ضلالة وخطأ .
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه . { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال ، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين ، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد .
الواو للحال . والجملة حال من قوله : { الذين كفروا } [ المائدة : 103 ] ، أي أنّهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذباً ، وإذا دعوا إلى اتّباع ما أمر الله به حقّاً أو التدبّر فيه أعرضوا وتمسّكوا بما كان عليه آباؤهم . فحالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا لهم من الضلالات ، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما ، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجّة لهم في الأولى ، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها .
والأمر في قوله { تعالَوْا } مستعمل في طلب الإقبال ، وفي إصغاء السمع ، ونظر الفكر ، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصدّ عنه ، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه . وتقدّم الكلام على فعل ( تعالَ ) عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء .
و { ما أنزل الله } : هو القرآنُ . وعطف { والى الرسول } لأنّه يرشدهم إلى فهم القرآن . وأعيد حرف ( إلى ) لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلّقي { تعالوا } فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي { تعالوا } الحقيقي والمجازي .
وقوله { قالوا حسبنا } أي كافينا ، إذا جُعلت ( حَسْب ) اسماً صريحاً و { ما وجدنا } هو الخبر ، أو كفانا إذا جُعلت ( حسب ) اسمَ فعل و { ما وجدنا } هو الفاعلَ . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } في سورة آل عمران ( 173 ) .
و ( على ) في قوله : { ما وجدنا عليه ءاباءنا } مجاز في تمكّن التلبّس ، وتقدّم في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] .
وقوله : { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون } الخ ، تقدّم القول على نظيره في سورة البقرة ( 170 ) عند قوله : { وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤكم } الآية .
وليس لهذه الآية تعلّق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهّمه جمع من المفسّرين ، لأنّ هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله ، فأمّا الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كلّه من اتّباع ما أنزل الله . فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى .