فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ} (104)

{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون 104 } .

{ وإذا قيل لهم } أي لعوامهم المعبر عنهم بالأكثر { تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وحكمهما { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم ، وصدق الله سبحانه حيث يقول { أو } الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار والتعجيب ، وقيل للعطف على جملة مقدرة وهو الأظهر أي أحسبهم ذلك و { لو كان آباؤهم } جهلة ضالين { لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة ، وقال هنا : { ما وجدنا } وهناك ما ألفينا ، ولا يعلمون هنا ولا يعقلون هنالك للتفنن وأساليب من التعبير ، وهذا مما استحسنه أبو حيان والسمين .

والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فكيف يصح الاقتداء بهم .

وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ بهم صارخ الكتاب والسنة ، فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء ، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة ، اللهم غفرا .

وكثيرا ما نسمع من أسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذ قال لهم القائل الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان قالوا لست أعلم من فلان يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك المسألة فنقول لهم نعم لست أعلم من فلان ولكن هل يجب علي إتباعه والأخذ بقوله فيقولون لا ولكن الحق لا يفوته ، فنقول لهم لا يفوته وحده بخصوصية فيه أم لا يفوته ومن يشابهه من العلماء ممن بلغ إلى الرتبة التي بلغ إليها في العلم ، فيقولون نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك .

فيقال لهم : له من الأشياء والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالا وعند الأخر حراما فهل تكون العين حلالا وحراما لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم ، فإن قلتم نعم فهذا باطل ومن قال بتصويب المجتهدين إنما يجعل قول كل واحد منهم صوابا لا إصابة ، وفرق بين المعنيين .

أو يقول القائل في جواب مقالتهم : فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم ، فما أحد إلا وغيره أعلم منه ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حينئذ بيده ولا بيد أتباعه .

وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلى بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون أسرار الأدلة ، ولا يفهمون الحقائق ، فيحتاج من ابتلى بهم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدنى تمسك بأذيال العلم ، فإن كل عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول قول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته ، إنما وظيفته قبول حجته فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه وإن كان في الواقع وربما له حجة لم يطلع عليها العالم الآخر إلا أن مجرد هذا التجويز يجوز التمسك به في إحسان الظن بالعالم الأول وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل ، فهو لا يقوله إلا من لا حظ له من العلم ولا نصيب له من العقل .