قوله تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } قرأ عاصم ، و حمزة بالتشديد ، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففاً ، أي : نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق . وقيل : ( ( ننكسه في الخلق ) ) أي : نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها . { أفلا يعقلون } فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت .
{ 68 } { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ }
يقول تعالى : { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ } من بني آدم { نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } أي : يعود إلى الحالة التي ابتدأ حالة الضعف ، ضعف العقل ، وضعف القوة . { أَفَلَا يَعْقِلُونَ } أن الآدمي ناقص من كل وجه ، فيتداركوا قوتهم وعقولهم ، فيستعملونها في طاعة ربهم .
ثم بين - سبحانه - أحوال الإِنسان عندما يتقدم به العمر فقال : { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }
وقوله : { نُّعَمِّرْهُ } من التعمير . بمعنى إطالة العمر .
قال القرطبى : وقوله : { نُنَكِّسْهُ } قرأه عاصم وحمزة - بضم النون الأولى وتشديد الكاف - من التنكيس . وقرأه الباقون : { نَنْكُسُه } - بفتح النون الأولى وضم الكاف - من نكست الشئ أنكُسُه نَكْساً إذا قلبته على رأسه فانتكس .
قال قتادة : المعنى : أنه يصير إلى حال الهرم الذى يشبه حال الصبا . . . قال الشاعر :
من عشا أَخْلَقَت الأيام جِدَّتَه . . . وخانه ثقتاه السمع والبصر
فطول العمر يصير الشباب هَرَما ، والقوة ضعفا ، والزيادة نقصا . . وقد استعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر .
والمعنى : " ومن نطل عمره ننكسه فى الخلق " أى : نرده إلى أرذل العمر ، فنجعله - بقدرتنا - ضعيفا بعد أن كان قويا ، وشيخا بعد أن كان شابا فتيا ، وناقص العقل بعد أن كان مكتمله . . . { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ذلك - أيها الناس - مع أنه من الأمور المشاهدة أمام أبصاركم ، وتعرفون أن من قدر على تحويل الإِنسان من ضعف إلى قوة ، ومن قوة إلى ضعف . . قادر - أيضاً - على إعادته إلى الحياة مرة أخرى بعد موته .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } وقوله - سبحانه - { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد هددت الكافرين بسوء المصير إذا استمروا فى كفرهم ، وبينت جانباً من فضل الله - تعالى - عليهم ، لعلهم يفيئون إلى رشدهم ، ويشكرونه على نعمه .
يخبر تعالى عن ابن{[24820]} آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ] . وقال : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [ الحج : 5 ] .
والمراد من هذا - والله أعلم - الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال ، لا دار دوام واستقرار ؛ ولهذا قال : { أَفَلا يَعْقِلُونَ } أي : يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [ نفس ]{[24821]} الشَّبيبَة ، ثم إلى الشيخوخة ؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى ، لا زوال لها ولا انتقال منها ، ولا محيد عنها ، وهي الدار الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَمَنْ نُعَمّرْهُ فنمُدّ له في العمر نُنَكّسْهُ فِي الخَلْقِ نردّه إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر ، وذلك هو النكس في الخلق ، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَمَنْ نُعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الخَلْقِ يقول : من نَمُدّ له في العمر ننكسه في الخلق ، لكيلا يعلم بعد علم شيئا ، يعني الهَرَم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : نُنَكّسْهُ فقرأه عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «نَنْكِسْهُ » بفتح النون الأولى وتسكين الثانية ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : نُنَكّسْهُ بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الكاف .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن التي عليها عامة قرّاء الكوفيين أعجبُ إليّ ، لأن التنكيس من الله في الخلق إنما هو حال بعد حال ، وشيء بعد شيء ، فذلك تأييد للتشديد .
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله : أفَلا يَعْقِلُونَ فقرأته قراء المدينة : «أفَلا تَعْقِلُونَ » بالتاء على وجه الخطاب . وقرأته قرّاء الكوفة بالياء على الخبر ، وقراءة ذلك بالياء أشبه بظاهر التنزيل ، لأن احتجاج من الله على المشركين الذين قال فيهم وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فإخراج ذلك خبرا على نحو ما خرج قوله : لَطَمَسْنا على أعْيُنِهِمْ أعجب إليّ ، وإن كان الاَخر غير مدفوع .
ويعني تعالى ذكره بقوله : أفَلا يَعْقِلُونَ : أفلا يعقل هؤلاء المشركون قُدْرة الله على ما يشاء بمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خلقه فيما شاء وأحبّ من صغر إلى كبر ، ومن تنكيس بعد كبر في هرم .
{ ومن نعمره } ومن نطل عمره . { ننكسه في الخلق } نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله ، وقرأ عاصم وحمزة " ننكسه " من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر . { أفلا يعقلون } أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه على تدرج ، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.