معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

قال ابن عباس : لما نزلت : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } ( الشورى-22 ) ، وقع في قلوب قوم منها شيء ، وقالوا : يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فنزل جبريل فأخبره أنهم اتهموه وأنزل هذه الآية ، فقال القوم الذين اتهموه : يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق ، فنزل{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } قال ابن عباس : يريد أولياؤه وأهل طاعته ، قيل التوبة ترك المعاصي نية وفعلاً ، والإقبال على الطاعة نيةً وفعلاً ، قال سهل بن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأفعال المحمودة . { ويعفو عن السيئات } إذا تابوا فلا يؤاخذهم بها . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الحارث بن سويد قال : دخلت على عبد الله أعوده ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لله أفرح بتوبة عبده من رجل ، أظنه قال في برية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فنزل فنام فاستيقظ وقد ضلت راحلته ، فطاف عليها حتى أدركه العطش ، فقال : أرجع إلى حيث كانت راحلتي فأموت عليه ، فرجع فأغفى فاستيقظ فإذ هو بها عنده عليها طعامه وشرابه "

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد ابن الصباح ، وزهير بن حرب قالا : حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك وهو عمه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " { ويعفو عن السيئات } فيمحوها إذا تابوا . { ويعلم ما تفعلون } قرأ حمزة والكسائي وحفص { تفعلون } بالتاء ، وقالوا : هو خطاب للمشركين ، وقرأ الآخرون بالياء لأنه بين خبرين عن قوم ، فقال : قبله يقبل التوبة عن عباده ، وبعده ويزيدهم من فضله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

{ 25-28 } { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ }

هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه ، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها ، ويعزمون على أن لا يعاودوها ، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم ، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك ، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية .

{ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } ويمحوها ، ويمحو أثرها من العيوب ، وما اقتضته من العقوبات ، ويعود التائب عنده كريما ، كأنه ما عمل سوءا قط ، ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه .

ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة ، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها ، وقد تكون ناقصة عند نقصهما ، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية ، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله ، ختم هذه الآية بقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

ثم تحدثت السورة الكريمة عن دلائل الإِيمان فى الأنفس والآفاق ، وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق بحياتهم ومعاشهم ، وفيما يتعلق بمظاهر لطفه بهم ، وفضله عليهم ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة . . . وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .

قال الجمل فى حاشيته : قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته . والتوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كان معصية بين العبد وربه فلها ثلاثة شروط ، الإِقلاع عن المعصية ، والندم على فعلها ، والعزم على عدم العودة إليها .

وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمى ، أضيف إلى ذلك : أن يبرأ من حق صاحبها . .

والمعنى : وهو - سبحانه - وحده الذى يقبل التوبة من عباده التائبين إليه ، شفقة عليهم ، ورحمة بهم ، بأن يكفر سيئاتهم ، ولا يعاقبهم عليها .

والقبول يعدى بعن ، لتضمنه معنى الإِبانة والقطع ، ويعدى بمن لتضمنه معنى الآخذ كما فى قوله - تعالى - : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } وعدى بعن هنا للإِشارة إلى تجاوزه سبحانه عن خطايا عباده .

وقوله - تعالى - { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } تأكيد لما قبله وتقرير له أى : أنه عز وجل يقبل التوبة من عباده التائبين ، وفضلا عن ذلك ، يعفو عن سيئاتهم ، ويسترها عليهم ، بل ويحولها - بفضله إلى حسنات ، كما قال - تعالى - { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } وقوله - سبحانه - { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تحذير من التمادى فى تأخير التوبة ، وفى اقتراف ما نهى عنه ، فكأنه - تعالى - يقول : لقد فتحت لكم باب التوبة والعفو ، فأقبلوا على طاعتى ، واتركوا معصيتى ، فإنى عليم بما تفعلونه من خير أو شر ، وسأجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .

و { مَا } فى قوله { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } موصولة ، والعائد محذوف . أى : ويعلم الذى تفعلونه دون أن يخفى عليه - تعالى - شئ منه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم ، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم . . وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة . . ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته . وبين القسمين اتصال ظاهر ، فهما طريقان إلى القلب البشري ، يصلانه بالوحي والإيمان .

( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ، والكافرون لهم عذاب شديد . ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض . ولكن ينزل بقدر ما يشاء ، إنه بعباده خبير بصير ) . .

تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات . ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما بلغهم به عن الله . وتقرير علم الله بذوات الصدور .

تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة ، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير . ويفتح لهم الباب على مصراعيه : فالله يقبل عنهم التوبة ، ويعفو عن السيئات ؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية ، والخوف مما أسلفوا من ذنوب . والله يعلم ما يفعلون . فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها . كما يعلم ما اسلفوا من السيئات ويغفرها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

لما جرى وعيد الذين يحاجُّون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى : { والذين يحاجّون في الله من بعدما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } [ الشورى : 16 ] . ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله : { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } [ الشورى : 22 ] ، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } [ الشورى : 22 ] ، وكان ذلك مَظنة أن يكسر نفوس أهل العناد والضلالة ، أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده ، وعفوُه بذلك عما سلف من سيئاتهم .

وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال . وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبلُ ، بدلالة لحن الخطاب أو فَحواه ، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده . وكل ذلك جرْي على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه . وهذا كله يتضمن وعداً للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم .

فجملة : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } معطوفة على جملة { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } [ الشورى : 21 ] وما اتصل بها ممّا تقدم ذكره وخاصة جملة : { ويمح الله الباطل } [ الشورى : 24 ] .

وابتِناءُ الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثباتَ حكمها ودوامه . ومَجيءُ المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شؤون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظَمة شأنه وغناه عن خلقه . وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف .

وفعل ( قَبِلَ ) يتعدى ب ( من ) الابتدائية تارة كما في قوله : { وما مَنَعَهم أن تقبل منهم نفقاتهم } [ التوبة : 54 ] وقوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } [ آل عمران : 91 ] ، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادراً من المأخوذ منه ، ويعدَّى ب { عن } فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصالِه عن معطيه وباذِلِه ، وهو أشد مبالغةً في معنى الفعل من تعديته بحرف ( من ) لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يُردّ على باذلِه .

فحصلت في جملة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أربعُ مبالغات : بناء الجملة على الاسمية وعلى الموصولية وعلى المضارعية ، وعلى تعدية فعل الصلة ب { عن } دون ( من ) .

و { التوبة } : الإقلاع عن فعل المعصية امتثالاً لطاعة الله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } في سورة البقرة ( 37 ) . وقبول التوبة منّة من الله تعالى لأنه لو شاء لَمَا رضِي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله .

وفي ذكر اسم العباد دون نحو : الناس أو التائبين أو غير ذلك إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه .

والعفو : عدم مؤاخذة الجاني بجنايَته . والسيئات : الجرائم لأنها سيئة عند الشرع . والعفو عن السيئات يكون بسبب التوبة بأن يعفو عن السيئات التي اقترفها العاصي قبل توبته ، ويكون بدون ذلك مثل العفو عن السيئات عقب الحج المبرور ، ومثل العفو عن السيئات لأجل الشهادة في سبيل الله ، ومثل العفو عن السيئات لكثرة الحسنات بأن يُمحَى عن العاصي من سيئاته ما يقابل مقداراً من حسناته على وجه يعلمه الله تعالى ، ومثل العفو عن الصغائر باجتناب الكبائر .

والتعريف في { السيئات } تعريف الجنس المراد به الاستغراق وهو عام مخصوص بغير الشرك قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به } [ النساء : 48 ] ولك أن تجعله عوضاً عن المضاف إليه ، أي عن سيئات عباده فيعم جميع العباد عموماً مخصوصاً بالأدلة لهذا الحكم كما في الوجه الأول .

وجملة { ويعلم ما تفعلون } معترضة بين المتعاطفات أو في موضع الحال ، والمقصود : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده خيرها وشرها . وقرأ الجمهور { ما يفعلون } بياء الغيبة ، أي ما يفعل عبادُه . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب على طريقة الالتفات .