اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا : يريد أن يحثنا{[49281]} على أقاربه من بعده ، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله{[49282]} : ( ف ){[49283]} إنا نشهد أنك صادق فنزل : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته{[49284]} . قال الزمخشري : يقال{[49285]} : قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ .

فصل

قيل : التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً ، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً . وقال سهل ابن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة{[49286]} . وقيل : الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، فقال يا أمير المؤمنين ( وما ){[49287]} التوبة ؟ فقال{[49288]} : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفريضة الإعادة ورد المظالم وإدامة{[49289]} النفس في الطاعة كما ربتيها{[49290]} في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل ضحك ضحكته{[49291]} .

قالت المعتزلة : يجب على الله قبول التوبة ، وقال أهل السنة : لا يجب على الله تعالى ، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل ، واحتجوا بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح{[49292]} العظيم ، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس{[49293]} ظلماً كان ذلك مدحاً .

قوله : { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة ، أو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد : أن يعفو عن الكبائر قبل التوبة{[49294]} .

والأول باطل وإلا صار قوله : { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } عين قوله : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } والتكرار خلاف الأصل ){[49295]} .

والثاني أيضاً باطل ؛ لأن ذلك واجبٌ ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة ، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة{[49296]} .

فصل

روى أنس ( رضي الله عنه ){[49297]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «للهُ أشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْها طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخُطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ : اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ » أخطأ من شدَّة الفَرَحِ .

قوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } قرأ الأخوان وحَفْصٌ يَفْعَلُونَ بالياء من تحت ؛ نظراً إلى قوله : «مِنْ عِبَادِهِ » وقال بعده : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } والباقون{[49298]} بالخطاب إقبالاً على الناس عامةً ، وهو خطاب للمشركين .


[49281]:تصحيح من البغوي 6/123، وفي ب يخشى.
[49282]:زيادة من ب عن البغوي.
[49283]:زيادة من ب عن البغوي.
[49284]:انظر البغوي 6/123.
[49285]:الكشاف 3/468.
[49286]:البغوي المرجع السابق.
[49287]:تكملتان من تفسير الرازي.
[49288]:تكملتان من تفسير الرازي.
[49289]:في الرازي: ولإذابة النفس.
[49290]:في ب وأمهر. والتصحيح من الرازي.
[49291]:وانظر تفسير الإمام الرازي 27/168، والكشاف 3/468 و469.
[49292]:في الرازي: التمدح.
[49293]:وفيه: ولا يقتلهم غضبا، والعبارة بتصرف من المؤلف في عبارة الرازي 27/168.
[49294]:السابق.
[49295]:ما بين القوسين سقط من ب.
[49296]:الرازي المرجع السابق.
[49297]:سقط من ب.
[49298]:من القراءات المتواترة، انظر السبعة 580، والإتحاف 383، ومعاني القرآن للفراء 3/23.