ثم قال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي : كل له عمله ، وكل سيجازى بما فعله ، لا يؤخذ{[101]} أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم ، أنكم على ملتهم ، والرضا بمجرد القول ، أمر فارغ لا حقيقة له ، بل الواجب عليكم ، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها ، هل تصلح للنجاة أم لا ؟
ثم حذر الله - تعالى - أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين فقال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
الإِشارة ب { تِلْكَ } إلى إبراهيم وبنيه ، أي أن إبراهيم وذريته ، أمة قد مضت وانقرضت ، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر ، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها ، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو دعوة إبراهيم - عليه السلام - وعلى دينه وملته .
فالآية الكريمة واردة لتقرير سنة من سنن الله العامة في خلقه وهي أن لكل نفس وحدها ثواب ما كسبت من خير وعليها وحدها يقع عقاب ما اكتسبت من شر . وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت بوضوح لبني إسرائيل وغيرهم أن ملة إبراهيم الإِسلام وأنه هو ويعقوب - عليهما السلام - قد أوصيا أبناءهما بأن يثبتوا على هذه الملة حتى الموت ، وأن أبناء يعقوب قد عاهدوه عند موته أن يستمروا على ملته وملة إبراهيم عليهما السلام .
وهذا الذي بينته الآيات الكريمة يطابق ما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإِيمان بالله - تعالى - وتصديق رسوله واتباع تعاليم الإِسلام .
وفي القرآن الكريم آيات أخرى صرحت بأن الإِسلام اسم للدين الذي دعا إليه كل الأنبياء ، وانتسب إليه أتباعهم فنوح قال لقومه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } وموسى قال لقومه : { ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } والحواريون قالوا لعيسى - عليه السلام - { آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } بل إن فريققا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا : { آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } وإلى هنا تكون قد ذكرنا بعض الآيات الكريمة التي أرشدت إلى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يطابق ما جاء به الأنبياء السابقون ، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوا ، لأن كفرهم به كفر بجميع الرسل السابقين .
وقبل أن نختم هذا الموضوع ننبه إلى مسألة مهمة . وهي أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يطابق - كما قلنا - ما جاء به الأنبياء قبله في أصول الدين وكلياته كتوحيد الله - تعالى - واختصاصه بالعبادة ، وتصديق الأنبياء السابقين فيما أتوا به عن الله - تعالى - والإيمان بالبعث وما يكون فيه من نعيم وعذاب والحض على مكارم الأخلاق ، أما ما عدا ذلك مما يتعلق بتفاصيل العبادات وأحكام المعاملات فإن الشرائع تختلف فيه بوجه عام حسب ما يتناسب وحالة الأمة التي بعث الله لها رسولا من كما قال تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومن هنا جاءت الشريعة الإِسلامية بما لم يكن موجوداً في الشرائع السابقة ، ومن مظاهر ذلك أن القرآن الكريم أعلن للناس ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم من مميزات شريعته أنها أحلت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أموراً تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف .
ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز : ( يجب أن يفهم - أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة - ليس نفضاً لها ، وإنما وقوفاً بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر .
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته ، فقصر غذاءه على اللبن ، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاماً ليناً ، وطعاما نشوياً خفيفاً ، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوي كامل .
لا ريب أن ها هنا اعترافاً ضمنياً من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقاً كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه ، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها ، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل ، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين .
هكذا الشرائع السماوية ، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها ، وكلها يصدق بعضها بعضاً من ألفها إلى يائها ، ولكن هذا التصديق على ضربين .
تصديق للقديم مع الإِذن ببقائه واستمراره ، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية ، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوي على نوعين من التشريعات .
( تشريعات خالدة ) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع ( كالوصايا التسع ونحوها ) .
و ( تشريعات موقوتة ) بآجال طويلة أو قصيرة ، فهذه تنتهي بانتهاء وفنها . وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة .
فشريعة التوراة - مثلا - عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك ( لا تقبل ) . ( لا تسرق ) فطابعها البارزتحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة .
وشريعة الإِنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور ، ثم تترقى فتزيد آداباً مكملة ( أحسن إلى من أساء إليك ) .
وأخيراً تجئ شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع . وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسن وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة . فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " .
وبذلك يتبين لنا أن مطابقة الشريعة الإسلامية لغيرها من الشرائع السابقة إنما هي في الأصول والكليات ، لا في الفروع والجزئيات .
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت ، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة . . حيث لا مجال لصلة ، ولا مجال لوراثة ، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين :
( تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ) . .
فلكل حساب ؛ ولكل طريق ؛ ولكل عنوان ؛ ولكل صفة . . أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين . إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف . هؤلاء حزب وأولئك حزب . لهؤلاء راية ولأولئك راية . . والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي . . فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل ، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب . أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق ؛ فليسا أمة واحدة ، وليس بينهما صلة ولا قرابة . . إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله ، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين . إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض ؛ وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة . وهذا هو التصور اللائق بالإنسان ، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية ، لا من التصاقات الطين الأرضية !
{ تلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }( 134 )
وقوله تعالى : { قد خلت } في موضع رفع نعت لأمة ، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض ، ويعنى بالأمة الأنبياء المذكورون ، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى ، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية ، ذلك لا ينفعكم ، لأن كل نفس { لها ما كسبت } من خير وشر ، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شراً( {[1307]} ) ، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد ، { ولا تسألون عما كانوا يعملون } فتنحلوهم ديناً .
عقبت الآيات المتقدمة من قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذراً لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فإن لنا من فضل آبائنا مسلكاً لنجاتنا ، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال .
والإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة .
والأمة تقدم بيانها آنفاً عند قوله تعالى : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] .
وقوله : { قد خلت } صفة لأمة ومعنى خلت مضت ، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة ، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به ، ولذا فقوله : { لها ما كسبت } الآية بدل من جملة { قد خلت } بدل مفصل من مجمل .
والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم ، فقوله : { لها ما كسبت } تمهيد لقوله : { ولكم ما كسبتم } إذ هو المقصود من الكلام ، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم ، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه .
ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب .
وتقديم المسندين على المسند إليهما في { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم ، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم .
وقوله : { ولا تسألون عما كانوا يعملون } معطوف على قوله : { لها ما كسبت } وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت ، فإن جعلت { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } خاصاً بالأعمال الصالحة فقوله : { ولا تسألون } إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل . وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير :
لعمري لنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عليهم *** بما لا يُواتيهم حُصَين بن ضَمْضمِ
فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين ، وإن جعلت قوله : { ولكم ما كسبتم } مراداً به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله : { ولا تسألون } إلخ احتراساً واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه ، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد خلت لها ما كسبت}: من العمل، يعني الدين، يعني: إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه.
ثم قال لليهود، {ولكم ما كسبتم} من الدين، {ولا تسألون عما كانوا يعملون} أولئك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ}: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية فتضيفوها إليهم، فإنهم أمة ويعني بالأمة في هذا الموضع الجماعة، والقرن من الناس "قد خلت": مضت لسبيلها.
وإنما قيل للذي قد مات فذهب: قد خلا، لتخلّيه من الدنيا، وانفراده بما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه، وأصله من قولهم: خلا الرجل، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه وانفرد من الناس، فاستعمل ذلك في الذي يموت على ذلك الوجه.
قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إنّ لمن نحلتموه بضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه من أنبيائي ورسلي ما كسبت. والهاء والألف في قوله: لَهَا عائدة إن شئت على «تلك»، وإن شئت على «الأمة».
{لَهَا مَا كَسَبَتْ}: أي ما عملت من خير، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم. ولا تؤاخذون أنتم أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل، فتُسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فيكسبون من خير وشرّ لأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم إن كنتم عملتموها وقدمتموها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لما ادعوا أن إبراهيم ومن ذكر من الأنبياء كانوا على دينهم، فقال عند ذلك:
{ولا تسألون} أنتم عن دينهم وأعمالهم، ولا هم يسألون عن دينكم وأعمالكم، بل كل يسأل عن دينه وما يعمل به...
قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} يدلُّ على ثلاثة معان؛
أحدها: أن الأبناء لا يُثابون على طاعة الآباء ولا يُعَذَّبون على ذنوبهم... ويبطل مذهب من يَزْعُمُ من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام: 164] {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، وقال: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} [النور: 54]. وقد بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي رمثة ورآه مع ابنه "أهُوَ ابْنُكَ "؟ فقال: نعم! قال: "أمَا إنّه لا يَجْني عَلَيْكَ ولا تجني عليه". وقال عليه السلام: "يا بني هَاشم! لا يأتيني الناسُ بأعْمالِهمْ وتَأتُوني بأنسَابكُمْ فأقول لا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شيئاً" وقال عليه السلام: "مَنْ بطأ به عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تِلْكَ} إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون. والمعنى: أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم...
{وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولا تؤاخذون بسيآتهم كما لا تنفعكم حسناتهم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله، وإن كان شرا فبعدله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان في ذلك أعظم تسجيل عليهم بأنهم نابذوا وصية الأصفياء من أسلافهم ومرقوا من دينهم وتعبدوا بخلافهم وكان من المعلوم قطعاً أن الجواب أنهم ما شهدوا ذلك ولا هم مسلمون عبر عنه بقوله: {تلك أمة قد خلت} أي قبلكم بدهور لم تشهدوها، ونبه على أنهم عملوا بغير أعمالهم بقوله: {لها} أي الأمة {ما كسبت} أي من دين الإسلام خاص بها لا شركة لكم فيه {ولكم ما كسبتم} أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم لا يسألون هم عن أعمالكم {ولا تسألون} أي أنتم {عما كانوا يعملون}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
فلا ينفعُهم انتسابُهم إليهم، وإنما ينفعهم اتباعُهم لهم في الأعمال. فالمرادُ تخييبُ المخاطَبين وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ عن الانتفاع بحسناتِ الأمةِ الخاليةِ وإنما أُطلق العملُ لإثبات الحكم بالطريقِ البرهاني في ضمن قاعدة كليةٍ، هذا وقد جعل السؤال عبارةً عن المؤاخذة...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وفيه الردّ على من يتكل على عمل سلفه، ويُرَوِّح نفسه بالأماني الباطلة...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
قوله {أُمَّةٌ} جماعة، سميت لأنها تؤم، أي تقصد، ويؤم بعضا بعضاً، ويجمعهم أمر واحد، دين أو زمان أو مكان، هذا أصل الأمة، وقد يطلق على الملة، أو على الزمان، أو على المنفرد بشيء في زمانه، وحمل بعضهم الآية عليه بمعنى أن كل واحد من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أمة في زمانه، فالإشارة إلى الأربعة على هذا، ولا يراد عما يعمل الأربعة من خير أو شر، إذ لا يعملون شرّاً اللهم إلا على سبيل الفرض للبرهان.
{قَدْ خَلَتْ} مضت {لَهَا} لا لغيرها... {مَا كَسَبَتْ} أجر عملها {وَلَكُمْ} لا لغيركم {مَّا كَسَبْتُمْ} ولهم أو لكم ما كسب لهم أو لكم، وحذف ذلك مثل أن يتصدق أحد ويصلى النفل، أو يصومه وينوى بثوابه غيره من الأحياء أو الأموات، وأما العلم المنتفع به والصدقة الجارية فمن كسب الإنسان، ومنفذ ذلك كوكيله وولد الرجل من كسبه، وقيل: يختص ذلك بهذه الأمة،
والخطاب لليهود، أو المراد الجزاء بخير أو شر كما في قوله {وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} عن خير أو شر ولا يسألون عما كنتم تعملون، والسؤال عبارة عن لازمه، وهو المؤاخذة، ولو كان حقيقا فكيف، وهو توبيخ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(الأستاذ الإمام): جاءت هذه الآية الكريمة بعد الكلام عن وصية إبراهيم لبنيه وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لبنيهم استدراكا على ما عساه يقع في أذهان ذراري هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أن هذا السلف الذي له عند الله هذه المكانة يشفع لهم فينجون ويسعدون يوم القيامة بمجرد الانتساب إليهم. فبين الله في هذه الآية أن سنته في عباده أن لا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله. وقد بين في سورة النجم أن هذه القضية من أصول الدين العامة التي جاء بها الأنبياء من قبل {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى * أن لا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} الخ. وبين في آيات متعددة في سور متفرقة، أن المرسلين لم يرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فمن آمن بهم وعمل بما يرشدون إليه كان ناجيا، وإن بعد عنهم في النسب، ومن أعرض عن هديهم كان هالكا وإن أدلى إليهم بأقرب سبب {قال 11: 45 يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} وإذا لم تنتفع بهم ذرياتهم الذين لم يقتدوا بهم فكيف ينتفع بهم أولئك البعداء الذين ليس بينهم وبينهم صلة إلا الأقوال الكاذبة التي يعبر عنها أهل هذا العصر (بالمحسوبية) ويقولون في مخاطبة أصحاب القبور عند الاستغاثة بهم "المحسوب كالمنسوب "وما أحسن قول الإمام الغزالي: إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب فالعاصي ينجو بصلاح والده. والآيات التي تؤيد هذه الآية كثيرة جدا فهي أصل من أصول الدين الإلهي لا يفيد معها تأويل المغرورين، ولا غرور الجاهلين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فاشتغالكم بهم وادعاؤكم، أنكم على ملتهم، والرضا بمجرد القول، أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها، هل تصلح للنجاة أم لا؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة.. حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين:... فلكل حساب؛ ولكل طريق؛ ولكل عنوان؛ ولكل صفة.. أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين. إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف. هؤلاء حزب وأولئك حزب. لهؤلاء راية ولأولئك راية.. والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي.. فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب. أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق؛ فليسا أمة واحدة، وليس بينهما صلة ولا قرابة.. إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين. إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض؛ وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة. وهذا هو التصور اللائق بالإنسان، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية، لا من التصاقات الطين الأرضية!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال...
{ولا تسألون عما كانوا يعملون}:...وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة، فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب... فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين، وإن جعلت قوله: {ولكم ما كسبتم} مراداً به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله: {ولا تسألون} إلخ احتراساً واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن اليهود كانوا كلما ذكرت محمدة لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم، وإن لم يهتدوا بهديهم. فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بأنهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم، ولا يسلكون مسلكهم، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}...
[و] الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم، هي {قد خلت} أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم، وتأخذوا بوصيته، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لا يغني فتيلا من غير اتباع... وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم. وإن لم تجدوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم...
لذا قال تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي لها ما كسبته مكسوبا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه، ويتضمن قوله: {لها ما كسبت} الجزاء لهذا الكسب، وهو خير {ولكم ما كسبتم} إن عملتم مثل عملهم، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارا تتحلون به، وهذا حث على الاقتداء، ودعوة إليه، فإن تجانفوا لإثم، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون... وأنكم لستم مسئولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم، لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم، ولذا قال تعالى: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} وكذلك لا يكفيكم عملهم، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم {ولا تزر وازرة وزر أخرى}...
ولقد قلنا إن كل حدث لابد أن يكون له محدث، ولا حدث يوجد بذاته، وكل حدث يحتاج إلى زمان ويحتاج إلى مكان.. فإذا قال الحق تبارك وتعالى: {تلك أمة قد خلت} فمعناه إنه انقضى زمانها وانفرد عن زمانكم. والمقصود بقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي انتهى زمانها.. وتلك اسم إشارة لمؤنث مخاطب وأمة هي المشار إليه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعامة المسلمين..
والله سبحانه وتعالى حين يقول: {تلك أمة} فكأنها مميزة بوحدة عقيدتها ووحدة إيمانها حتى أصبحت شيئا واحدا.. ولذلك لابد أن يخاطبها بالوحدة.. واقرأ قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون "93 "} (سورة الأنبياء). وتلك هنا إشارة لأمة إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب.. هم جماعة كثيرة لهم عقيدة واحدة...
وقوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}.. أي تلك جماعة على دين واحد تحاسب عما فعلته كما ستحاسبون أنتم على ما فعلتم.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن إبراهيم كان أمةً} (من الآية 120 سورة النحل)...
وإبراهيم فرد وليس جماعة؟ نقول نعم إن إبراهيم فرد ولكن اجتمعت فيه من خصال الخير ومواهب الكمال ما لا يجتمع إلا في أمة...
وقوله تعالى: "قد خلت "يراد بها إفهام اليهود ألا ينسبوا أنفسهم إلى إبراهيم نسبا كاذبا لأن نسب الأنبياء ليس نسباً دمويا أو جنسيا أو انتماء.. وإنما نسب منهج واتباع.. فكأن الحق يقول لليهود لن ينفعكم أن تكونوا من سلالة إبراهيم ولا اسحق ولا يعقوب.. لأن نسب النبوة هو نسب إيماني فيه اتباع للمنهج والعقيدة.. ولا يشفع هذا النسب يوم القيامة لأن لكل واحد عمله...
قوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}.. الكسب يؤخذ على الخير والاكتساب يؤخذ في الشر لأن الشر فيه افتعال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تنتهي قصة التاريخ في هذه الآيات، بالآية التي تتوجه إلى النّاس بالنداء التالي: إنَّ هذا التاريخ هو تاريخ الأمم السابقة في ما عملت وفي ما كسبت، ولستم مسؤولين عن كلّ أعمالهم في قليلٍ أو في كثير، بل هم المسؤولون عن ذلك كلّه في ما استقاموا به وفي ما انحرفوا عنه، أمّا أنتم فلكم تاريخكم المستقل المتمثّل في أعمالكم التي تكسبون بها الجنّة أو النّار، فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك وتحدّدوا خطواتكم العملية من خلال دراستكم للنتائج المصيرية لخطوات الآخرين، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كلّ المجالات...
وفي هذه الآية إيحاء بأنَّ على الأمّة في أجيالها الجديدة أن لا تستغرق في تاريخها القديم ليغيب وعيها في داخله، وليشغلها ذلك عن عملية صنع التاريخ في الحاضر، كالكثيرين الذين يتحدّثون عن أمجاد الآباء القديمة من دون أن يشغلوا أنفسهم بصنع الأمجاد الجديدة، لتعرف أنَّ الماضي لا يمثّل مسؤوليتها بل مسؤولية الذين صنعوه، وعليها أن تأخذ منه الدروس والعبر، ثُمَّ تتابع سيرها وتحرّك تجربتها في صنع التاريخ الجديد الذي تتحمل مسؤولية إيجاده ومسؤولية كلّ تفاصيله أمام اللّه وفي ضوء ذلك، لا تكون الأمّة مشدودةً إلى الماضي لتتابع خلافاته وأحقاده ومشاكله، لتكون أحقاداً وخلافات ومشاكل لها في الحاضر، فتتجدّد الحروب والنزاعات، على أساس حروب الماضي ونزاعاته، بل تكون المسألة مسألة قضايا الواقع الجديد في ما يتحرّك به الإنسان في أفكاره وهمومه وغاياته، [سواء أكانت] متأثرة ببعض ما في الماضي من خطوط ومبادئ عامة، [أم] كانت منطلقة من خلال مبادئ الحاضر وخطوطه...